في الآونة الأخيرة، باتت ظاهرةُ طلبِ المالِ دون حاجةٍ مُلِحّة تتزايد بشكل ملحوظ، مثيرةً الكثير من التساؤلات حول مفهوم الكرامة، والاعتماد على النفس، وقيم التكافل الاجتماعي. فحينما نرى شخصاً قد يبدو مستورَ الحال يطلب مبلغاً زهيداً لتغطية نفقات طعامه، او نفقات مشربه, على سبيل المثال الحي لذلك: مررت بشخص يقف بجوار إحدى أكشاك بيع القهوة وبعد ان انتهيت من طلبي تقدم الي هذا الشخص الذي يبدو في نهاية العقد الرابع من عمره تقريباً وطلب مني مبلغاً لكي يتمكن من شراء مشروب (موكا بارد) بحسب رغبته، ولم يكن هذا الموقف الاول الذي دعاني لكتابة هذا المقال فقد سبقه موقف آخر لسيدة أوقفتني داخل إحدى محلات المواد الغذائية وهي تدفع عربة مليئة بالأطعمة وعلى رقبتها قلادة معلق بها هاتف حديث تتجاوز قيمته ثلاثة آلاف ريال وبيدها مفاتيح لسيارة كورية الصنع لتطلب مني أن أقوم بدفع تكاليف الطعام الذي كانت قد طلبته من المطعم المجاور قبل أن تشرع في أخذ إحتياجاتها من محل المواد الغذائية.
وللأسف ان هؤلاء الأشخاص تناسوا أنهم وقعوا في إشكالات عديدة، سواء من الناحية الدينية أو الأخلاقية أو الاجتماعية.
فمن منظورٍ إسلامي، تُعدّ قيمة الاعتماد على الذات من الفضائل التي دعت إليها الشريعة، حيث يُشجّع الإسلام على الاجتهاد والعمل، ويفضل أن يحافظ المسلم على كرامته دون سؤال الناس، إلا في حالات الضيق الفعلي. إذ ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: “ما يزالُ الرجلُ يسألُ الناسَ حتى يأتي يومَ القيامةِ ليس في وجهِه مُزعةُ لحمٍ”، مما يُبرز خطورة الاعتياد على السؤال بغير حاجة. فالمال في الإسلام أمانة، يجب إنفاقه بتعقّل وحكمة، وعندما يُسهل على النفس الطلب بلا حاجة، تُهدر قيمة المال المعنوية، وتتحول العلاقات من التعاون والتكافل إلى الاستغلال والتبعية.
هذه الظاهرة لا تقتصر على الجانب الفردي فقط، بل تؤثر سلباً على المجتمع. فعندما يُكثر الناس من الطلب بلا حاجة، يتولّد الشك وعدم الثقة فيمن يطلب العون بصدق، مما يخلق نوعاً من القسوة والفتور في العلاقات الإنسانية. ويعزّز هذا السلوك الاتكالية بدل الاعتماد على الذات، مما يُضعف من قدرة المجتمع على تقديم الدعم للمحتاجين فعلاً.
كما أن طلب المال دون ضرورةٍ حقيقية، يُنتهك جانبٌ أساسي من الكرامة الإنسانية. فعندما يختار الشخص التهاون في طلب ما ليس مضطراً إليه، يضعف من احترامه لنفسه ويهزّ صورته أمام الآخرين. كرامة الإنسان ترتبط ارتباطاً وثيقاً بقدرته على تلبية احتياجاته دون الاعتماد الدائم على غيره، وحينما يفرّط الفرد في هذه القدرة لأجل رغبات بسيطة، فهو بذلك يتنازل عن جزء من استقلاليته وقدرته على تسيير حياته بنفسه. وقد يترك هذا السلوك أثره على نظرته لنفسه على المدى الطويل، حيث يبدأ بإقناع ذاته بأنه غير قادر على تحمل مسؤولياته أو تلبية احتياجاته، مما يؤثر سلباً على ثقته بنفسه ويُضعف من عزيمته في العمل والاجتهاد.
إضافةً إلى ذلك، يؤدي هذا التهاون إلى فقدان احترام الآخرين له، خاصةً في مجتمع يقدّر العمل والجدّ. فالشخص الذي يسأل دون حاجة يفقد احترام الناس له، ويُعامل كمُستغِل للآخرين، مما يَبعده عن روح المحبة والتعاون التي يحتاج إليها أي فرد في محيطه. مثل هذه التصرفات تزرع شعوراً بعدم الثقة، وتدفع الناس إلى التردد في مساعدته، حيث يعتقدون أنه لا يقدر ما يُقدَّم له ولا يحترم أصول العون والتكافل بين أفراد المجتمع.
لذا لا بد من التواصي على التشديد على أهمية العودة إلى قيمنا الأصيلة التي ترتكز على الكرامة، والاستقلالية، والاعتماد على الذات. ينبغي أن يتعلم الفرد قيمة العمل وأهمية السعي، وألا يلجأ للسؤال إلا عند الضرورة الحقيقية. كذلك، من واجب المجتمع أن يساهم في نشر الوعي، وأن يُشجّع الأفراد على العمل ورفع مستوى الاعتماد على النفس، وأن يُعلي من شأن من يعمل بجدٍ، ويجعل الكرامة والاستقلالية الشخصية هدفاً يسعى الجميع لتحقيقه. وفي هذا السياق، يجب أن نُذكّر أنفسنا أن الحاجة الحقيقية للعون هي أمر طبيعي يتطلب الدعم، أما التهاون في طلب المال دون حاجة فهو فعل لا يعزز سوى الاتكالية والضعف، ويُقوّض جهود البناء المجتمعي والأخلاقي التي ننشدها.