ولكنني نويت أن تكون إجازتي برفقة العائلة في بلاد لم أعهدها وكل معرفتي بها لا تتعدى ما تبثه وسائل الإعلام رغم ضآلتها.
لذلك حزمنا أمتعتنا وحقائب سفرنا المأمول، وانطلقنا مساء الجمعة نهاية شهر ذو الحجة من عام ١٤٤٥هـ، من مطار عاصمتنا الحبيبة الرياض، في الساعة الحادية عشرة وتسع وخمسين دقيقة، وقد فاتني التأكد من سريان تأشيرة دخول البلاد المقصودة التي انتهت لأن حجوزاتنا كانت من أوائل شهر ذي الحجة وليس هذا موعدها الأصلي، وكان خط سير رحلتنا (الرياض دبي أوسلو بيرغن)، والذي تغير دون رغبتنا وأصبح (الرياض الدمام أمستردام بيرغن). ! وقضينا في السماء والأرض قرابة ثلاثاً وعشرين ساعة صاحبها كثير من التأفف والضجر والإعياء، إلى أن وصلنا بالسلامة مطار بيرغن فحمدنا الله على سلامة الوصول، وكنا قد هبطنا مطار أمستردام قبل ذلك، ولم يرافقنا من محطتنا الأولى الرياض إلا ثلاثة أشخاص افتقدناهم في هولندا، حيث كانت رحلتنا على متن إحدى طائرات الخطوط الجوية الملكية الهولندية . واستغرق سفرنا من أمستردام إلى غرب النرويج قرابة الساعتين !
وقد رأيت على وجوه أفراد عائلتي ملامح السرور والشوق للتمتع بهذه الإجازة الترويحية في البلاد النرويجية، ولهذا مرت أيام الرحلة ولم نفطن إلا وقد مضى من وجودنا في النرويج على ضفاف القطب الشمالي قرابة شهر جلنا خلالها في أرجاء الغرب النرويجي من جنوبه إلى شماله مروراً بالبلاد الهولندية وأمستردام التي طرنا منها إلى بيرغن العاصمة القديمة لتلك البلاد، وكلما وصلنا إلى مدينة او بلدة وقفنا على طبيعتها الساحرة لنستجلي جمالها ونستمتع بخضرتها وأنهارها الجارية وجوّها اللطيف وكأننا في جنة الدنيا والتي تفوق كما تصورنا جمال وعذوبة لبنان في عز مجده قبل أن تمتد يد الشر وتعبث به وتشوه ماكان عليه من سلام وجمال، ولن نغالط الحقيقة إذا قلنا أن هذه البلاد تتفوق على سويسرا فبيرغن وأريافها التي أمضينا فيها ثلث رحلتنا، ما رأينا في حياتنا ونحن أبناء جنوب مملكتنا الغالية ذو الطبيعة الخلابة أمتع للنفس منها وأحلى في العين منظراً، وأبقى في القلب أثراً منها ، ومررنا ونحن في طريقنا متجهين إلى الشمال النرويجي باتجاه مدينة يقال لها (أوليسوند) في طريق ما رأينا ولا سمعنا ولا أظننا أننا سنرى أو نسمع أن في الدنيا أجمل منه، فقررنا البقاء فأقمنا في بلدة (جيسكي) وهذا اسمها ثلاثة أيام مرت كأنها ثلاث ساعات في كوخ جميل مطل على بحر الشمال ويطل كذلك على أرخبيل جزر متناثرة، ويبدو أن جيسكي أيضاً جزيرة لكني لم اشعر بذلك لكبر حجمها قليلاً عن باقي الأرخبيل .!!
ولفت اهتمامنا طبيعة الشعب النرويجي الذين يتصفون بالود في تعاملهم معنا و يبادرون للمساعدة، ولم نلحظ تأففا أو تضجرا من السائحين رغم معرفتهم كما يبدو لسحنتنا الشرق أوسطية والعربية تحديداً. إلا آخر ليلة ونحن نقوم بشحن أمتعتنا فقد لاقينا عند باب الأوتيل رجلا متجهم الوجه وينظر نحونا بنظرات غريبة ولا أظنه نرويجي من سحنته وسماته الشخصية وربما يكون من إحدى دول أمريكا الجنوبية.. !
وكنت قد عزمت أن أدوّن تلك الرحلة إلى البلاد الإسكندنافية منذ بدايتها، فشرعت أكتب كل يوم في مذكراتي عن كل بلدة حللنا بها وكل شلال ذهبنا إليه وأحوال بعض من لاقيناهم هناك، وتخيلت للوهلة الأولى أن بعض البلدات التي زرناها لم تطأها أقدام مسافرين من قبلنا (فكنا الفاتحين لها)، وذهبنا إلى قرية في جنوب مدينة (فوس) يقال أنها ذات مناظر خلابة، ورغم أننا زرناها بعد الظهر إلا أننا أحسسنا فيها بما يبعث على الخوف وينفي الأمان، ذلك أن الطريق أخذنا إلى بقايا طريق كان يوماً معبداً ولكنه كان خرباً وغطته أشواك وأغصان وأعلاف مواشي القرويين ..!
* مر الآن على رحلتنا هذه عدة أشهر ولا تزال أحداثها متمكنة من أذهاننا أنا وعائلتي، ماثلة أمام أعيننا، وإذا كان من سيء في تلك البلاد رغم جمالها الذي أشرنا له آنفا فهو سوء بعض طرقها للتعرجات التي بها وصعوبة المسالك فيها، حيث الطريق مساراً واحداً غالباً وبعض الأنفاق طويلة جداً وبعضها ضيقة جداً وبعضها كأنها بنيت في زمن العصور الوسطى، مع ملاحظة أن السرعة في الغالب لا تتجاوز ٨٠ كيلو فالطريق الذي يستغرق ساعة تقطعه في ساعتين ونصف، فلم أكن أسلك الجادة التي يؤمن فيها العثار، خرجت من هذه الرحلة بذخيرة من الذكر والعبر، ولا أزال أتحدث عنها في مجالسي الخاصة ما نفد ما عندي منها، وإن مضى عليها زمناً.
* إذا نزلت بلدة نائية فيه أتذكر بلادي العرضيات (وأشد ما يكون الشوق يوماً_ إذا دنت الخيامُ من الخيامِ)
* وفي بلدة (سترين) ونحن نجول في وسطها لاحظنا اسم شركة مكتوب باللغة اللاتينية (قنفتا)، فعادت بي الذاكرة للمحافظة الساحلية التي تعرفونها.جنوب غرب المملكة.
* تعرفت في بيرغن على رجل حاذق من أهل غزة (فك الله أسرها ونصر أهلها على العدو الغاشم ) اسمه سعيد عيّاد كان نعم الأخ والصديق ولا يزال ، لم أهاتفه مرة إلا وهو منشغل بمساعدة أحد الزائرين لتلك البلاد، تفانى كثيراً وهو يحتفي بنا ويقدم لنا كل ما في وسعه من كرم الضيافة والنصائح ويحدثني عن غربة المهجر.