لن ابالغ اذا قلت ان في اعماق كل جنوبي فلاح صغير لايزال يحن الى اصوات السواني وخرير المياه بين الحقول ، ولايزال قلبه يهفو الى أهازيج الرعاة وتغاريد الطيور على سعف النخل وأغصان السدور ، وأما رائحة البرك والريحان فما تزال سر أبدي يخبئه الجنوبي في أعماق روحه ولا يكاد يفشيه إلا لمن مَلَك تلك الروح واستولى على مكنونها.
يسافر الجنوبي ويطوف مشارق الارض ومغاربها ويستوطن الديار البعيدة والنائية ولكنه أبدًا لاينسى ديرته ومسقط رأسه ، يتغنى بها أينما حل ويذوب شوقًا إليه كلما تناهت إليه أخبارها.
من النادر جدًا أن ترى الجنوبي يعيش وحده ؛ بل هو كائن اجتماعي بفطرته، فما أن يسكن أحد الأحياء حتى يبدأ في البحث عن بني جلدته من الجنوبيين ويسعى الى معرفتهم ،وسرعان ماتجدهم وقد أصبحوا مجموعة واحدة ، يتجاذبون أطراف الأحاديث ويتبادلون الضحكات ويستعيدون الذكريات وكأنهم يعرفون بعضهم منذ زمن بعيد ، وما ذاك إلا لأنهم ينتمون إلى بيئة واحدة متشابهة ومتناغمة في تقاليدها وعاداتها.
يقضي الجنوبي جُلَّ عمره متغرباً وبعيدا عن ديرته ولكنه يظل يحملها في قلبه أينما حلَّ أو رحل ، ويعود إليها مسرعًا متى ماسنحت له الفرصة.
ما إن يسمع الجنوبي بهطول المطر على ديرته حتى يغلبه الحنين وتتغشاه لواعج الشوق فيصحو ذلك الفلاح الصغير القابع في أعماقه فيزداد شوقًا إلى رؤية رؤوس الجبال وهي تعانق السحاب ، والى الشعاب وهي تزف مواكب السيول إلى السهول والوديان ، وإلى الحقول وهي تتنافس في احتضان مياه العقوم الهادرة .
يبقى الجنوبي علامة فارقة وعملة نادرة في حبه للأرض وعشقه للوطن وإنك لترى ذلك واضحًا على محيا كبار السن كلما أقبل على ديرته أو همّ بفراقها، أولئك هم المسكونون بالديار والمغرمون بمدارج الطفولة ومراتع الصبا.
بقلم: حسن الشمراني

المسكونون بالديار
وصلة دائمة لهذا المحتوى : https://www.mnbr.news/articles/399015.html