لطالما تخير التاريخ من يعطيهم الدروس والحصص، ويسرد عليهم الأحداث والقصص، ولأنه يدرك تمامًا أن الهمم والعزائم ليست سواء؛ ما كان ليترك دروسه تذهب هباء.
وقد تخيَّر فيمن تخيَّر شابًّا يافعًا فتح له مجلَّد مفكراته على أحداثٍ وقعت في الخامس من شوال عام ١٣١٩هـ، كان بطلها شابٌّ آخر في السادسة والعشرين من عمره، استطاع يومها أن يطلق العنان لطموحه وكبريائه، ويستعيد ما سُلِب من ملك أجداده وآبائه. لم يكن يملك ما يكفي من عدة وعتاد، لكنَّ العزيمة، والهمة، والطموح، كانت له خير زاد.
وصادف أن يكون بطل تلك الأحداث جَدًّا للشاب المتربع أمام التاريخ في لهف، القارئ لتلك الأحداث في شغف، فحرَّكت الأحداث في جوفه من الطموح جذوه، واختار أن يسير على خطى ذلك الجَدِّ، ويحذو حذوه، فأقبل على السياسة يعُبُّ من معينها، واختار مجالس الحكمة والحنكة ليكون قرينها، وما إن سنحت له الفرصة ليخطو أولى خطواته في ديوان الحكم حتى أثبت الجدارة، وحاز الصدارة، فصدر بولايته للعهد القرار والحكم، وانطلق يتصدر الموقف، من غير تراجعٍ، أو تقهقرٍ، أو توقف، بدءًا بإصلاح الداخل، وتأمين المخارج والمداخل، ومرورًا بالسياسة مع الخارج، حتى بلغ ذروة المعارج؛ فهابه العظماء، وخطب وده القادة والرؤساء، وأصبح يشيح بوجهه عمَّن لا يستحق الرد، ويبادل من يستحق الود بالود، وشاعت بين أبناء وطنه روح التفاؤل؛ فملامح النهضة والرقي باتت ظاهرةً لا تحتاج إلى تساؤل.
حاول المغرضون وضع العراقيل والرمي بالتهم، غير أنه استمر في مضيه لا يلتفت ولا يهتم، واختار أن لا يلقي بالًا للبلهاء، ولا يرد جوابًا على السفهاء؛ فقد علَّمته مجالس الحكمة قول القائل:
إذا ناداك السفيه فلا تجبه فخيرٌ من إجابته السكوتُ
وها هي الذكرى الخامسة على ولاية الأمير محمدٍ للعهد تحين، وما يلوح في الأفق من بوادر النهضة ينبئ أن رؤيته التي رسمها سوف تتحقق ولو بعد حين، وأن القامات الطامحة لا تخلِّف إلا أجيالاً صالحة، فما أشبه الليلة بالبارحة.