الحياة الدنيا مليئة بالمتضادات، أمن وخوف، صحة وسقم، غنى وفقر، سعادة وحزن، فرح وترح، نهار وليل، ضياء وظلام.. إلى آخر سلسلة المتناقضات.
هذه سنة الله في الكون، فالحياة الدنيا ليست على وتيرة واحدة، بل متقلبة وهي بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيفما شاء ومتى شاء.
لا نأمن مكر الله، فقد نصبح على شيء ونمسي على شيء آخر والعكس، فلا يغتر أحدنا بصحته، أو بمنصبه، ولا يتغطرس بماله أو جاهه، ولا يتباهى بفيلته الحديثة في أرقى الأحياء، أو يتباهى بسيارته الفارهة، فكل هالك إلا وجهه "كل شيء هالك إلا وجهه".
التواضع صفة حميدة، وخصلة محببة نبيلة، حث عليها ديننا الإسلامي ورغب فيها، فمن تواضع رفعه الله، ومن صعر خده للناس يداس بالأقدام يوم القيامة كحشرة لا قيمة لها.
فالغني عليه أن يتواصل مع الناس، ويتلمس احتياجاتهم، خاصة من تربطه بهم صلة رحم، دون تفرقة أو تفضيل. فكم من ذوي القرابة وغيرهم فقراء متعففون لا يسألون الناس إلحافًا، رضوا بما قسم لهم، فاطمأنت نفوسهم، فهم متوكلون على الله، هو الرازق المتكفل بخلقه، هذه الفئة من الناس، البشاشة لا تفارق محياهم، يمتلكون أفئدة العاصفير، وأحلام توزن أكبر البلدان، يصلون ما أمر به أن يوصل، ويزرون ويستقبلون، يكرمون الضيف، ويسعدون بالزوار، يقدمون الطعام والشراب حسب استطاعتهم وعلى قدر ما يملكون "لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها".
يذكر أن رجلًا كانت له أختًا بمنأى عنه، ولم يزرها من منذ مدة طويلة، فاشتاق لها وقرر زيارتها بعد أن اتفق وزوجته وأم زوجته على تحديد وقت تلك الزيارة. وفي اليوم المحدد اتصل على أخته وسلم عليها وقال: نحن قادمون لزيارتك أنا وزوجتي، فرحبت وفرحت، وقامت تفتش في البيت لتعد شيئًا تقدمه لهم، فلم تجد إلا برتقالتين في ثلاجتها فقط لا غير وكما قيل في المثل الشعبي الدارج "الجود من الموجود". عصرت البرتقالتين ووضعت العصير في كوبين "كوب لأخيها والآخر لزوجته" بالإضافة إلى بعض التميرات وضعتها إلى جانب دلة القهوة وإبريق الشاي، فجأة طُرِق الباب فهبت تفتح فإذا بأخيها وزوجته وأم زوجته، فصدمت لأنها لم تحسب حسابها في الضيافة، فليس لديها سوى كوبين من عصير البرتقال، فصارت تحدث نفسها ماذا أفعل؟! كيف أتصرف؟! فجاء ببالها أن تملأ الكوب الثالث ماءً على أنه سفن أب، وعند التقديم أعطت زوجة أخيها وأمها كوبي البرتقال، وأعطت أخاها الكوب الثالث، وقالت: أمسك السفن أب، أخذه ولما طعمه علم أنه ماء وليس "سفن أب" فأسرها في نفسه ولم يبدها لهم، فإذا بأم الزوجة تقول له: أعطني السفن أشعر بمغص عله يفيدني، نظر شمالًا ويمينًا وفوق وتحت يستجلب حلًا كي لا ينكشف أمر أخته، ثم ناول أم زوجته الكوب وقبل أن تمسك به فكه من يده فسقط وكُسِر وكُب على السجاد، حينها انتهت الزيارة.
وهم خارجون قال لأخته: نظفي السجاد من آثار السفن أب فقد أفسده، ثم ابتسم و أخذها على جنب وأدخل يده في جيبه وناولها مبلغًا من المال على أن يتعهدها ويتفقد أحوالها باستمرار، حتى لا يشرب سفن كالمرة الأولى.