أمضت البشرية عمرها تتداول الحكمة بشكل عامودي، قادم من الأعلى إلى الأسفل، حيث في الأعالي يكون أتون القداسة ومخازن الحكمة، وفي الأسفل تنداح الكتلة الهائلة العطشى، المترقبة للتعاليم والطقوس التي ستحدد موقفها من الكون حولها، وموقف الكون منها.
لكن في عصرنا الحاضر الأطفال الذين كانوا يلعبون في الساحة الخلفية بمغفل عن العالم، اكتشفوا مفاتيح اللعبة، وباتوا هم الذين يحركونها ويقودون قاطرتها، فأولئك الذين كانوا يلعبون ويعبثون في الجراج الخلفي لمنزلهم، عثروا على المصباح السحري والمارد الذي غير ملامح العالم.
بعد أن أصبحت المعرفة هي رأس مال وسلعة، بل أضخم شركات من ناحية القيمة السوقية على مستوى العالم، هي شركات ذات رأس مال معرفي مثل (ألفا بت "جوجل" - أبل - مايكروسوفت - الفيسبوك...).
أمام هذه الحقائق أعتقد أن أكبر قطاعين قد يتأثران بهذا هما التعليم والإعلام.
فالتعليم بحسب ما يشير الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو هو أحد الأجهزة الأيديولوجية للسلطة (بجميع أنواعها) والتي تعمل في رأيه على إعادة إنتاج نفس نمط الإنتاج، وتوازن علاقاته السائدة في المجتمع، والتي تهدف إلى المحافظة على المسافات بين شرائح المجتمع، وأيضا إلى إعادة إنتاج نفس العلاقات المستقرة.
الآن الفتى الذي يمتلك في جيبه مفاتيح اللعبة، ويستطيع أن يصلح جوال جده الحكيم، إلى أي مدى نستطيع أن نثق بمحاضن المعرفة التقليدية كموضع لتطوره المعرفي؟
ومشهد المعلم الذي يقف إلى جوار السبورة وبيده الطبشورة يحاول أن ينقل للطلاب المعارف المكتملة، أو تلك التي يظنها مكتملة، سيتدفق سيل الوقت وسيأخذه في طريقه ليرشقه لوحة أحفورية من الماضي، فالمعرفة العامودية تتفكك، وتأخذ شكل الطوفان المتسرب عبر جميع الأبواب والنوافذ.
أيضا الإعلام الجديد الذي صف لعبة الكراسي للنخب الفكرية، وبات يستدرجهم لساحاته، لنجد من النادر أن يصمد أحدهم أمام هذه اللعبة اليومية المحمومة المتصلة.
فهشاشة أقدام بعضهم المعرفية تقصفت أمام جري المسافات الطويلة، وبعض من ينوء بذاته الثقيلة المتورمة لم يستطع أن يكمل لعبة الكراسي، فاستعاض عنها بالفرقعات الصوتية والفكرية التي تضمن له جزءا من الضوء، داخل لعبة بات لا يسيطر على قوانينها.
وإذا كان المعدل اليومي الذي يقضيه الفرد السعودي مستخدما وسائل التواصل الاجتماعي هو 3 ساعات بزيادة 0,6 على المعدل العالمي، حيث تقع المملكة في المرتبة 10 عالميا، والثانية على المستوى العربي بعد الإمارات، فإننا حتما سنجد أن عصر المعرفة قد دخل حاملا شروطه وقوانينه الخاصة للعبة النخب والكراسي.
الرياض