في كتابه "من البادية إلى عالم النفط" ينقلك الدكتور علي النعيمي إلى الماضي، بل يُحضر الماضي إليك، بحيث يسافر بك في رحلة مشوقة عبر تعرجات الحياة وعوارضها، لتعيش معه تلك الأيام بكل ما كانت تحمل من أفراح وأتراح، ومن شقاء ونعمة، بأسلوب جذاب، وكل من عاش تلك الحقبة كان يحمل من التجارب الكثير، ولكن البعض لم يتيسر له تدوين تجاربه وخبراته، إما لعدم معرفة بالقراءة والكتابة، أو انشغاله بمجريات حياته اليومية، أو لعدم اهتمامه بهذا الأمر، أو تأجيله له حتى طوته يد المنون، أو غطت عليه رمال النسيان.
أولئك الرجال كانوا يمسكون عصا الحياة بأيدٍ خشنة، ويطوون مجاهلها بأقدام حافية، كانوا يتزودون بالقليل من الزاد ليقطعون الكثير من المسافة، لتأمين لقمة العيش لأسرهم، وتهيئة أسباب الحياة الكريمة، وتحقيق ما يستطيعون من آمال، وبناء البلد، وخلال تلك الرحلة الشاقة البسيطة كانوا يستزيدون من دروس الحياة، وعِبَر الأيام، وتجارب المواقف، ما يضيفونه إلى أرصدتهم القيمية والأخلاقية، حيث كانوا يؤثرون على أنفسهم وبهم خصاصة، لمعرفتهم بِعِظم المسؤولية، وبعد نظرهم، وعلو همتهم.
إن ما ننعم به اليوم من حياة هانئة، وعيش رغيد، لم يكن موجوداً في عهدهم، فقد كانوا هم ضمن فريق التأسيس الذي كان يرافق المؤسس الباني رحمه الله تعالى في إيجاده لنا، فهذه الكهرباء التي ننعم بها شاركوا في إنشائها ومد خطوطها وأسلاكها، وتلك الطرق هم ممن مهدها، وهذه البنية التحتية المذهلة كانوا يبنونها جزءاً جزءاً حتى ظهرت لنا بهذا الشكل الذي نفاخر به كل دول العالم المتقدم، وتلك القيم هم من خَبَرها وجربها وعاشها حتى أصبحت لديهم من المسلمات الرائعة، وخلال ذلك أصبحوا قواميس تجارب، ومراكز أبحاث، ومصانع رجال وهمم متنقلة.
وهم اليوم متقاعدون، ولكن ذاكراتهم لم تتقاعد، وحبهم للخير لم ينتهِ، وأرواحهم البناءة لم تذبل، وهممهم لم تقلّ،ورغبتهم في نقل تجاربهم وخبراتهم - التي لم تسعفهم الظروف لتدوينها - للأجيال عارمة، فينبغي لهم منا الإكرام، والتقدير، وأن نفسح لهم صدور المجالس، وننصت لهم، نعم ننصت لهم، ليقدمون لنا تجاربهم على طبق من ذهب، وذلك قبل أن يطويهم الردى. وأن لا نتجاهلهم فنحن الآن ننعم بفضل الله ثم بما بنوه لنا.