لأحد جيراني ديكٌ سِمَتُهُ القباحة، ولا بأس بالصراحة؛ لأن فيها - كما يقال - شيئًا من الراحة، فتعالوا أيها السيدات والسادة، أروي لكم ما جرت به العادة؛ علَْكم تشاركونني المعاناة، وإن كنت أعلم أن بعضكم يعاني ما أعانيه وزيادة.
إن كان كل ديكٍ لا يصيح إلا إن رأى مَلَكًا، فلا أظن ديك الجار إلا قد غلب ظنه على اليقين، فصدَّق نفسه، وتخيَّل رؤية الملائكة في كل حين، لم يناسبه من البيت كله إلا غرفة النوم، فرابط خلف جدارها طيلة اليوم، رافعًا صوته بالصياح، في الليل وفي الصباح، بالطبع لا ليوقظني للصلاة؛ لأنه - في الأصل - حرمني لذة النوم في كل الأوقات.
أحسبُه كان مصابًا بجنون العظمة، فجاوز الحد في التخيُّل، واستلذ التنقل والتحوُّل، ففي الليل يرى من نفسه أم كلثوم، فيبيت مخاطبًا للنجوم، وتباغته شخصية فيروز في الصباح، حتى إذا قضى تقلَّد زِيَّ صباح، وهكذا شأنه كل يوم، لا يقبل العتاب ولا اللوم، وقُدِّر لي أن أشتري سيارةً لولدي، كيف لا وهو حبيبي وفلذة كبدي؟! ليست في نوعها فريدة، لكنها على كل حالٍ جديدة، وما أن رآها المسكين حتى أمسكت بحلقه غصة، وظن أنني من شدة الإعجاب بصوته قد أهديته منصة، فبدأ شيئًا فشيئًا يلج إلى الفناء، وكأنه عذراء تمشي لرؤية الخطيب على استحياء، افتقدتُ صوته المقيت، وقيلولته إلى جوار الغرفة والمبيت، فقلت لعلَّ الملعون رحل، أو أن طموحه نقله هذه المرة إلى زُحَل، وخرجت ذات يومٍ لأفاجأ به وقد اعتلى مقدمة السيارة بكل حقارة، متأهبًا كأنه ينتظر إزاحة الستارة، فما أن أحس بي حتى بادرني بالتفاتة يخالطها العُجْبُ والغرور، كالذي يريد مني التصفيق بحرارة، ويالصدمته حينما رأى على وجهي ملامح الجنون والغضب، شُدِهَ قليلاً ثم لاذ بالهرب، طاردته وفي يدي كومةٌ من الأحجار، فنجح في الفرار، بعد أن قفز فوق الجدار، عدت إلى السيارة، وقد زالت عن ملامحها النضارة، فلم يكتف الملعون بما أحدث من خدوش، بل زاد الطين بلة بوضع القذارة، ولا أدري إن كان ذلك من أثر الخوف والارتعاد، أم أنه أحبَّ أن يبالغ في قهري وإغاظتي كما أراد.
بتُّ ليلتي أقلِّبُ الأمور بحثًا عن انتقام، ولم يكن ليشفي غليلي منه حتى لو كَشَطْتُ لحمه عن العظام، لكنني قررت أن أقتفي الآثار؛ لأعرف الجار، فأطرق باب الدار، وأجري الحوار بأدب، فأخرج بأقل الأضرار.
في اليوم التالي افتقدتُ الديك وصوته، واستمر الأمر كذلك أيامًا، فقلتُ علَّه استعجل موته، فقدم نفسه للقطط الجياع طعامًا، وبعد طول تحرٍّ وانتظار، جاءني صوته مستغيثًا من خلف الأسوار، فعرفت حينها أن الجار (حسَّ على دمه)، فحبس الديك، وأعلن عن ندمه.
هذا ما كان من أمري وأمر ديك الجار، وليت أذى بعض الجيران يتوقف عند حدود ديك؛ لتوقَّف الناس حينها عن التنقل بين شقق الإيجار، وتحوَّلوا من فورهم إلى التمليك.