الحب هبة فطرية وهبها الله للإنسان منذ أن خلقه فجعل الحب قبل الحرب. وببداهة معهودة نتساءل أي من هذين القطبين أسبق إلى دواخل النفس البشرية؟
فالحب هو ذلك الوئام والسلام بين مخلوقين، وأوله ما بين سيدنا آدم عليه السلام وأمنا حواء إذ انطلقت من ضلعه ومن تحت جناحه؛ ثم تلته بذرة الكراهية والحرب بين هابيل وقابيل لتتأسس في ملكوت الله ثيمة الحب والحرب في صراع دائم يتغلب فيهما صاحب الفضيلة.
وللحب منازل ومسارات منه الحبيب ومنه النديم ومنه الخليل إلخ... من المشاعر الفياضة التي لم يوجدها الله في دواخل النفس البشرة إلا لإعمار الأرض وليس لهدمها وخرابها وقتل من فيها.
وما دعاني لكتابة هذه السطور هو مشاهدة حدثين مهمين يحملان هذا التضاد الكبير بين الحب والحرب وأثر كل منهما في بناء الدول وهدمها. أولهما بناء الجمال في مدينة القاهرة؛ وثانيهما برنامج على إحدى القنوات عن سباق التسلح "الحرب الفيزيائية" ويا ألطاف الله من فرق شاسع بين الهدم والبناء واللذين يعتمدان في أصلهما على الحب والكراهية! شيء غريب وعجيب إذا ما أخذنا برهة من التأمل والتفكير النادرين في مثل هذه الأيام!
دعونا نسبح قليلا في أولاهما حيث فضل التكوين والأسبقية؛ بناء أجمل ما تراه العين في القاهرة لكي تسر عين المحبوبة الضيفة عند قدومها من بلاد الإفرنجة (أوجيني).
(أوجيني) فتاة أسبانية بالغة الجمال والثقافة وتوقد الذهن. التقت بالخديوي إسماعيل وهو في ريعان شبابه أثناء دراستهما في فرنسا ووقع الشاب في غرامها ثم يعود بلاده ويصبح بعدها خديوي مصر، فلم ينسه المال والسلطان وحسناوات عصره حبها المتقد في وجدانه إلا أنه يفاجأ أنها قد تزوجت من إمبراطور فرنسا وأصبحت حينها ذات نفوذ يفوق نفوذ زوجها. فيدعوها الخديوي لزيارة مصر وافتتاح قناة السويس؛ فماذا فعل المحب بشوارع مصر حينها إكراما لعينيها؟
ما أن قبلت دعوة الخديوي حتى رتب العديد من الأمور لإكرام حبيبته، فأنشأ قصر الجزيرة على الطراز الفرنسي وهو ما سمي بعد ذلك بقصر عمر الخيام ثم أصبح الآن فندق (ماريوت)، والذي بني كصورة طبق الأصل لقصر "التويليري" بفرنسا، حتى تشعر بأنها مازالت في فرنسا، وأمر بغرس حبوب زهرة الكرز تحت نافذة غرفة نومها لكي تستنشق عطرها فور استيقاظها، لأنه يعلم عشقها لهذه الزهور، إضافةً إلى أمره بإنشاء شارع الهرم، لأنها ستعبر منه لزيارة الأهرامات، كما أمر الخديوي إسماعيل بإنشاء حديقة الجبلاية، والتي تبلغ درجة عالية من الجمال والأناقة، لتتمتع الإمبراطورة بها وقيل إنه أنشأ حديقة باهرة الهندسة المعمارية في حي الزمالك بالقرب من القصر المخصص لإقامتها لكي تتنزه بها ثم أمر بإنشاء أحواض بها أسماك من نوادر حياة البحار داخل الحديقة لكل تتمتع برؤيتها حين التنزه بها فأصبحت الآن "حديقة الأسماك" يقول أحد المؤرخين: "في يوم افتتاح قناة السويس، استقبل الخديوي إسماعيل الإمبراطورة أوجيني على رصيف ميناء بورسعيد، والذي سُمي باسمها، واصطف الجنود على الرصيف، كما اصطفت السفن أمام الميناء، وبعد تناول الغداء، عُزف النشيد الوطني الفرنسي، ودخل الخديوي، وترافقه الإمبراطورة إلى مكان الاحتفال، وكانا في المقدمة، فيما كان باقي الملوك والأمراء خلفهما، كما بدأت المدافع في إطلاق النيران، كنوع من الحفاوة، وفي نهاية زيارتها، أمر إسماعيل بإنشاء غرفة نوم من الذهب الخالص، زينتها ياقوته حمراء، ونُقشت حولها عبارة بالفرنسية، وهي "عيني على الأقل ستظل معجبة بكِ إلى الأبد".
أنشأ القصور والحدائق والشوارع التي نقلت مدينة القاهرة إلى مصاف المعالم العالمية لأنه يحمل بين جوانحه قلبا يرف بالحب. فحفر قناة السويس وأنشأ قصورا فخمة مثل قصر عابدين وقصر رأس التين وقصر القبة وأنشأ دار الأوبرا المصرية وأنشأ كوبري قصر النيل الشهير. وبدأ استخدام البرق والبريد وتطوير السكك الحديدية ثم إضاءة الشوارع ومد أنابيب المياه فأصبحت القاهرة مدينة للنور والجمال.
هكذا يعتمل الحب في بناء معالم الجمال في الحياة، فالحب لا يبني إلا الجمال ولا وجود للقبح في عالمه على الإطلاق فإذا ما توهج بالقلب بنى الحياة والجمال والسلام السعادة في قلوب البشر!
أما الأمر الثاني النقيض وهو الحرب والقبح وفنون القتل وسباق التسليح وما يدمر البناء والجمال ويبعث على الشقاء الإنساني لأنه مستنبت من بذرة الكراهية فهو ما ينتشر في أيامنا من فنون الحرب الفيزيائي ويسمى "علم الحرب المتطور"! فنون في ابتكار القتل وإبادة البشرية، وبمقارنة مع سابق هذه السطور نجد أن نابليون نفسه - وفي نفس اللحظة التي يبني فيها الخديوي بالحب فنون الجمال الخالد – يبني الأخير فنون الحرب والدمار، فيكتب باري باركر في كتابه "فيزياء الحرب" The Physics of War ـ الذي يؤرخ أن «نابليون دَرَسَ علم الفيزياء بجانب الرياضيات والفلك في المدرسة العسكرية، وأدرك أهمية العلم للحرب"! رجال عشقوا الكراهية والقتل ورجال عشقوا الجمال والحب فماذا فعل كل منهما تحت تأثير هذين المسميين في عالم الجمال والحب والسلام.
فعلم النفس ما يؤكد مختلجات النفس البشرية في الحرب والسلام، وفي الحب والكراهية على النقيض.. يقدِّم كتاب مايكل ماثيوز «رأس صلبة» Head Strong ـ النابض بالحياة، والمثير للاهتمام ـ حجةً قوية على أن علم النفس يبزغ بوصفه العلم الذي سوف يُحْدِث الفرق في حرب القرن الواحد والعشرين. ويزعم أن الحرب ليست معناها مجرد القتل، إنما فَهْم أنفسنا. يوضح ماثيوز ـ وهو عالِم متخصِّص في علم النفس العسكري ـ كيف أسهَمَ علم النفس في كل شيء، بدايةً من اختيار القادة، إلى مساعدة الجنود في الإبحار عبر ثقافات أجنبية. ويتنبأ بأنه سوف يفيد يومًا ما في إنتاج عقاقير «قادرة على تنظيم استجابة المخ لضغط المعركة العصبي، وربما التخلص من اضطراب ما بعد الصدمة»".
كلمة مهمة أطلقها (ماتيوز) وهي أن نفهم أنفسنا أولا وأن نضرب مهماز الحب من أجل السلام الداخلي والخارجي حتى نبني الجمال في الحياة.
الرياض