تسألني من أين أتيت؟ من أرض الأمطار أتيت، أطوق رأسي بغرزة ريحان، وختنة برك وكادي، وأحتزم جنبيّتي ومسّبتي، وفي يدي عصاة "شوحط" مدهونة بأجواد أنواع السمن التهامي.
أتيت وفي جعبتي تعب السنين وآهات الحنين، أقلب سبحة أفكاري، وأتأمل فيما حلَّ بأرضنا، فالمكان هو المكان، والجبال هي الجبال، والأودية هي الأودية، لكن البشر لم يعودوا هم البشر، لقد سلبوا من الثعالب مكرها، ومن الذئاب خداعها وغدرها، ومن الجِمال حقدها وضغينتها.
لقد تنكر الأقرباء لأقربائهم، وانقلب الأصحاب على أصحابهم، وتبدل حب الأصدقاء إلى كره وضغينة، ولم يعد هناك سوى مجاملات زائفة، وأقنعة مهترئة تخفي خلفها وجوهًا بشعة وأعينًا مخادعة.
فزعت إلى ذاكرتي لعلي التمس منها قبسًا من نور يضيء لي شيئًا من ظُلمة هذه العتمة المرعبة، فصرخَت قائلة: لم يعد هناك شيء سوى بقايا من ضياء الأولين، وهزيعًا من سير الراحلين، عندما كان الجوع هو الضجيع، والأرض هي الفراش الوثير، والسماء هي اللحاف الدافئ، كان البيت الواحد يأوي الجميع، والرغيف الواحد يشبع الجميع، كانت البيوت مشرعة كما هي القلوب، لا فواصل أسمنتية، ولا أبواب موصدة، وكل ما هنالك هو أعواد من الجريد وعصائب من لحاء الاشجار، لكنها كانت ممتلئة بالحُب ومغلفة بالأخوة الصادقة.
وفي حين كانت أصوات السواني تشنّف القلوب قبل الآذان، وقطرات المطر تبلل الشفاه قبل الهضاب والوديان، كان الفرح يأتي كسحابة ممطرة تنهمر على القلوب فترتوي بالمحبة والنقاء، وتنبت حقولًا من الألفة والصفاء، وتينع ثمارًا من التعاون والتكاتف والإيثار، يقتسمها الجميع فيما بينهم، فلا حسد ولا تباغض ولا كره ولا ضغينة.
كانت أحاديث السمر تعطر مجالسهم فلا سباب ولا شتيمة ولا اغتياب ولا رذيلة، لذلك كان المطر يأتي سريعًا كلما رفعوا أكفهم البيضاء إلى السماء، فيما الأرض كانت تمارس غوايتها في اختطاف القلوب، عندما كانت ترتدي أجمل الحلل الربيعية، وتفوح منها نفحات الوزَّاب وأزهار السكب.
هنا كان لا بد أن أستميح الذاكرة عذرًا وأسدل الستار على بقايا الحنين، فالواقع أصبح مختلف جدًا، والحياة أصبحت مثيرة حقًا، بل مزعجة جدًا.