تحت رعاية وبحضور صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي يرافقه صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل رئيس مؤسسة الفكر العربي، انطلقت أمس أعمال مؤتمر فكر 16 تحت شعار تداعيات الفوضى وتحديات صناعة الاستقرار والتي تستمر حتى 12 أبريل الجاري في فندق جراند حياة بدبي.
وجاءت هذه النسخة بهدف فحص وتحليل حالة تسود العالم الكوني تتسم بالفوضى والاضطراب واللانظام وبحث تأثيراتها وتداعياتها على الدول العربية واقتراح سبل التعامل معها وسبل صناعة الاستقرار واتباع السياسات وبناء المؤسسات التي تحقق التطور المنظم وتستجيب للمطالب بما يضمن تحقق السلم المجتمعي.
وبهذه المناسبة ألقى معالي أحمد أبو الغيط الأمين العام لجامعة الدول العربية كلمة أكد فيها أن هذا عصر تتلاحق تفاعلاته بسرعة فائقة، وتتحرك أحداثه بوتيرة تفوق القدرة على الاستيعاب، وتتراجع قيمة التفكير الهادئ، واصفًا إياه عصر التدفق المستمر واللحظي للمعلومات تتقلص القدرة على التأمل والتدبر واستخلاص العبر وقال: “إن الفرد يستهلك معلومات أكثر، ويطالع بيانات أوفر ولكن يمارس التفكير بقدر أقل لذا فإن حكمنا على الظواهر والأحداث لحظي وانفعالي .و سريع وعابر مثل الأحداث ذاتها”.
عالم ما بعد الحقيقة
وأوضح أن العصر الذي نعيش يحتاج إلى المفكر الباحث عن الحقيقة أكثر من أي وقت مضى، واصفًا إياه بعصر الاضطراب بامتياز، حيث الأوراق تتداخل والقضايا تتعقد، واحتمالات الفوضى تتصاعد. والحقيقة ذاتها تختبئ وراء ركام من الأكاذيب والتضليل. مضيفًا: “هذا العصر “عالم ما بعد الحقيقة” للتعبير عن هذه الحالة المُلتبسة من اختفاء الخط الفاصل بين الحقائق الثابتة والأكاذيب المُفبركة”.
ونوَّه بأن النظام العالمي يمر بحالة غير مسبوقة من السيولة والتنافس الذي يقترب من الصراع بين اللاعبين الرئيسيين، وهو تطور يلقي بظلال من انعدام اليقين على كافة التفاعلات والعلاقات الدولية حيث نقترب من وضعٍ تتآكل فيه قواعد قديمة من دون أن تظهر أخرى جديدة تحل محلها وتهب فيه رياح الفوضى والاضطراب على الدول والمؤسسات الراسخة فتُزعزع أركانها، وتُزلزل قواعدها، وتُصيب بُنيانها بخلل شديد مستدركا ي أن بلادنا العربية ليست بعيدة عن هذه الرياح الخطرة، بل هي في عين العاصفة.
وأشار إلى أن الدول، وعلى مدار عقود، واجهت تحديًا رئيسيًا يتعلق بكيفية نقل المجتمعات العربية من أوضاع متخلفة خلفها الاستعمار إلى حالٍ جديدة من التحديث والتنمية. واليوم تواجهنا تحديات إضافية
وطرح أبو الغيط عدة تساؤلات قائلًا: “كيف نحافظ على الاستقرار في زمن الفوضى؟ كيف نُصون الوحدة في عصر التفتت؟ كيف نبني المؤسسات في زمن تآكل المؤسسات؟ كيف نعصم مجمعاتنا من تهديدات مفاجئة وتصدعات خطيرة صارت جزءًا لا يتجزأ من طبيعة العالم المُعاصر”.
واستعرض خمس نقاط تُمثل تحديات تفرض علينا كعرب التفكير فيها والتعامل معها تتمثل بوجود ردة فعل عنيفة إزاء ظاهرة العولمة، مستشهدًا بعدة أمثلة مثل الانسحاب البريطاني من الاتحاد الأوروبي، ووصول الرئيس ترامب إلى مقعد الرئاسة في الولايات المتحدة، باعتبارها رد فعل غاضب من جانب قطاعات واسعة من مواطني الغرب تشعر أن العولمة خذلتها وفاقمت من معاناتها.
وقال إن الرافضين ليسوا من الفقراء، ولكنهم يضمون شرائح من الطبقة الوسطى التي لم تتزايد دخولها الحقيقية لعقود حيث يشعرون بأن حرية التجارة وتعزيز الترابط العالمي لم يصب في مصلحتهم فيما محصلة ذلك هي صعود لتيارات الانكفاء على الداخل، وبناء الجدران العالية أمام التجارة ووالمهاجرين وكل ما هو قادم من الخارج.
وأشار إلى تصاعد ملحوظ في السياسات القومية المتطرفة والنزعات الشعبوية الجارفة التي تعتمد على نهج مُغازلة غرائز الجمهور، وتحريك مخاوفه الأولية، عبر طرح شعارات مُبسطة وأهداف براقة وتعتمد أيضًا على اختراع الأعداء وتضخيم المخاطر الداخلية والخارجية موضحًا أن عالمًا يقوم على الانكفاء والقومية المتطرفة هو عالم أكثر خطورة، وأشد عرضة للتوترات بين الدول وبعضها البعض، والاتجاه إلى تفتيت الوحدات القائمة إلى وحدات أصغر، على أساس القومية أو العرق أو الدين.
ودعا أبو الغيط إلى العيش المشترك، وتعزيز قدرة المجتمعات على قبول التنوع والاختلاف باعتباره مصدر قوة وإثراء، مؤكدًا أن التحدي الرئيسي أمام الدولة الوطنية في العالم العربي هو أن تصبح “دولة لكل مواطنيها”، لا مكان فيها للطائفية أو المذهبية أو التيارات المُلتحفة بالدين، وشدد على ضرورة تعلم العيش معًا في المنطقة العربية، الغنية بالملل والنحل والأعراق عوضا عن القضاء على الدولة وتشريد أبنائها وتبديد مُقدراتها.
وتطرق أبو الغيط إلى المحور الثاني قائلَا: “إننا نقف على أعتاب ثورة تكنولوجية ضخمة والذكاء الاصطناعي والبيانات العملاقة وتكنولوجيا المعلومات والأتمتة، أو ما يسمى بالثورة الصناعية الرابعة التي ستفرز رابحين وخاسرين وستخلف ضحاياها، وأولهم العمالة غير الماهرة وشبه الماهرة التي ستقوم الآلات بوظائفها بصورة أفضل، فتنتفي الحاجة إليها”.
وتساءل: “أين العرب من هذه الثورة الهائلة التي تطرق أبوابنا أم سوف تفوتنا مثلما فاتتنا الثورة الأولى زمنًا طويلًا حتى صرنا أسرى للتخلف والاستعمار”.
الثورة الصناعية الرابعة
وطالب أبو الغيط بإعداد الشباب العربي للتعامل مع معطيات ومتطلبات الثورة الصناعية الرابعة، تعليمًا وتدريبًا وعدم تركهم فريسة لتقسيم جديد للعمل على المستوى العالمي لا يحصلون بمقتضاه سوى على الوظائف الدنيا والأعمال ذات القيمة المضافة المنخفضة.
وعن المحور الثالث قال: “إن أخطر ما يواجه العالم اليوم المؤسسات الدينية والاجتماعية والثقافية أيضًا”، منوهًا بأن تكنولوجيا المعلومات ووسائل التواصل الاجتماعي تدفع في هذا الاتجاه عبر ترويج الأخبار الكاذبة بما يُسهم في تشكيل مناخ مشحون من الإحباط والتشويش والتحريض والغضب واليأس.
وأكد أن جيل الشباب هم الأكثر عرضة لهذه التأثيرات الخطيرة في حال أن هذه التكنولوجيا تُرك لها الحبل على الغارب، موجهًا كلامه الى المفكرين العرب مطالبا إياهم بالاهتمام والانتباه الى هذا الملف الخطير، فالعزلة والانغلاق لا يمثلان حلًا، وقال: “إنه لا يخفى على أحد ما تُعانيه بعض دولنا العربية من أزمات تمتد آثارها إلى ما وراء الحدود، وتُلقي بظلالها على الوضع العام في المنطقة، وتُفرز مناخًا عامًا من انعدام الاستقرار والقلق من المستقبل لدى المواطن العربي”، مطالبًا المؤسسات العربية، السياسية و الدينية والاجتماعية، أن تُعزز رسوخها بالانفتاح على تجارب الآخرين، والتعلم منها والتفاعل معها وأن تبذل الجهد من أجل نيل ثقة الجمهور وتستمد الشرعية من هذه الثقة المتجددة.
أما المحور الأخير فدعا أبو الغيط إلى أهمية الحفاظ على الاستقرار مقرونًا بالتغيير والإصلاح من أجل تحصين مجتمعاتنا من فورات الفوضى وشرورها، مطالبًا بإصلاح النظم التعليمية وتجديد المفاهيم الدينية وتطوير الرؤى الثقافية، مختتمًا: “الإصلاح والتغيير مطلوبان من أجل صيانة الاستقرار”.
صناعة الاستقرار
وبدوره أكد البروفسور هنري العَويط، المدير العام لمؤسسة الفكر العربي، أن مؤتمر “فكر16 ” ينعقد في لحظةٍ تاريخيةٍ عصيبةٍ ومصيرية. وهو لا يكتسبُ أهميّتَه البالغة من موضوعِهِ فحسب، بل أيضًا من حراجةِ الأوضاعِ التي تمر بها مِنطقتُنا، والتي لم تعرف مثيلًا لها في الحدّةِ والخطورة، منذ أمدٍ بعيد. وخيرُ شاهدٍ على ذلك ما تتعرّضُ له دولٌ كالعراق وسوريا واليمن من حروبٍ ونزاعاتٍ وتفتيتٍ وانهيار، وما تكابده المِنطقة، ومعها العالَمُ بأسره، جراءِ الإرهابِ الذي مارسته وتمارسه، في أبشعِ أشكالهِ وأفظعِ صوره، منظّمةٌ تكفيريّةٌ تدعو إلى إقامةِ دولةِ الخلافةِ المزعومة.
وحذَّر هنري العويط من مغبّةِ استفحالِ هذه الفوضى، وتفاقمِ هذه الأَزَمَات، مؤكدًا أن المؤسسة أخضعت هذه الحالة للدراسةِ والتحليل، بمنهجيّةٍ علميّة، ومقارباتٍ موضوعيّة، وبمنتهى الصراحةِ والشفافيّة بهدف بث الوعي لخطورةِ الأوضاعِ ومخاطرِها، وتحديدِ أفضلِ السُبُلِ لمواجهتها.
وأشار إلى العنوانُ الذي اختير للمؤتمر: “تداعياتُ الفوضى وتحدّياتُ صناعةِ الاستقرار”، قائلًا إنه يعبر عن هذا النهجِ وهذه التوجهات، حيث يوضح في الشق الأول واقعنا المأساويِّ المرير، أما الشق الثاني يحمل بُعدٍ استشرافيّ، وذلك للإلحاحِ على ضرورةِ الخروجِ من نَفَقِ الفوضى المُظلمِ إلى رِحابِ الاستقرار، وللتشديدِ على ما يرتّبه علينا تحقيقُ هذا الاستقرار من مسؤوليّاتٍ وأعباء. من خلال الحرص على دراسةِ أوضاعِ مِنطقتنا في مستوياتها الوطنيّةِ والإقليميّة والدوليّة. فالتحدّياتُ التي نُواجِهُها هي في الحقيقةِ، وفي الآنِ عينه، تحدّياتٌ خارجيّة وتحدّياتٌ داخليّة، متداخلةٌ ومتلازمة.
ساحة صراعات وحروب
وأكد أنّ مِنطقةَ الشرقِ الأوسط تحوَّلت إلى ساحةِ صراعاتٍ وحروب، تتعدّد الأطرافُ المنخرطةُ فيها وتتشابك. فيما يظهر مصالح وأطماع للأطرافِ الخارجيّة، المجاورةِ والبعيدة، الإقليميّةِ والدوليّة، مطالبًا بالتمسك بالحق في تقريرِ مصير أنفسنا، من خلال صناعةِ الاستقرار، على الصُعُدِ السياسيّةِ والاقتصاديّةِ والأمنيةِ والفكريّةِ والتربويّة، وإقامة دولةِ المؤسّساتِ والقانون، وإصلاحِ ما قد يعتري أنظمتَنا السياسيّةَ من اختلالٍ في آليّاتِ عملِها، وتطبيقِ إجراءاتِ الحوكمةِ الرشيدة، ومحاربةِ الفساد، ولَجمِ ارتفاعِ معدّلاتِ الفقرِ والبَطالة، وتأمينِ التوزيعِ العادلِ للثروات، وتحديثِ برامجِ التربيةِ وأساليبِ التعلّمِ والتعليم، والتصدّي لاحتدامِ العصبيّات، وتفشّي الأصوليّات، وتنامي ظواهرِ العنفِ والتطرّفِ والإرهاب.
مشاركة فكر في عام زايد.
وأضاف أن اختيارُ دولةِ الإماراتِ العربيّةِ المتّحدة لاستضافة مؤتمر فكر تناغمُ معَ رغبةِ مؤسّسةِ الفكرِ العربيّ في مشاركةِ حكّامِها وشعبها إحياءَهم الذكرى المئويّةَ لميلادِ مؤسِّسها، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيّبَ الله ثراه، والإعرابِ، في “عام زايد”، عن عواطفِ الوفاءِ لإرثِهِ، والتقديرِ لمسيرتِهِ، والاعترافِ بدوره الاستثنائيّ في بناءِ وحدةِ الدولة، وإطلاقِ نهضتها وعمرانها.مؤكدا أنه لا يوجد مكاناً أفضلَ من دبي، لا لأنّها المنتدى المثاليّ للتلاقي والحوارِ فحسب، بل لنستلهمَ أيضًا من بصيرةِ حاكمِها الثاقبة، ورؤيته الطَموح، وقيادتِه الرشيدة، ومبادراتِه الخلّاقة، المبادئَ الأساسيّةَ لتحقيقِ الاستقرار الذي يدعو مؤتمرُنا إلى بنائِهِ وتوطيدهِ في مِنطقتنا العربيّة، ولنستخلصَ من تجربةِ إمارةِ دبي، الرائدةِ والنموذجيّة، الدليلَ الحيَّ والقاطع على أنّ تغلّبَنا على الفوضى ليس حلمًا مستحيلًا أو مجرّدَ وهمٍ وسَراب، وأنّ نجاحَنا في صناعةِ الاستقرارِ يمكنُ أن يكونَ مُلكَ أيدينا، لأنّه رهنٌ بوعينا، وتصميمنا، وحسنِ تخطيطنا، وتضافرِ جهودنا.
وقال إن “فكر 16” هو مؤتمرٌ للتحفيزِ والاستنهاض، داعيًا إلى تحمل المسؤوليّةَ في معالجةِ أسبابِ الفوضى وتداعياتها بهدف تحقيقِ الاستقرار، باعتبارها مسؤوليّةٌ جَماعيّة. مشتركة.