عندما يكون المكان يعرف بالإنسان فذاك يعني أنه إنسان بأُمَّة ، يحاول أن يتخطى الظروف ويسابق الزمن، يصنع من اللاشيء شيئاً يوافق الزمن الذي يعيشه من ساعدته الظروف وأهدته الحياة مقوماتها الأساسية.
كلّ إنسان يستطيع أن يكون رجل نفسه لكن أن يكون رجل قبيلة ، فتلك معادلةٌ أخرى تحتاج تضحيات أكثر وحباً أعمق ومستوى تفكير أعلى ونظرةً أبعد .
كانت قريةً نائية، بعيدةً في آخر سجلات الزمن، يلفها ظلام اليل الدامس، تتعاورها الأمراض والأوبئة، يخيم فيها الجهل كضيفٍ ثقيل غير مرحبٍ به .يرحل الأبناء عن آبائهم إن أرادوا أن يتعلموا أدنى درجات العلم، أما شقائقهم فيستحيل أن يميزن حرفاً من رقم ليست هذه نهاية المأساة بل من رفاهية العيش في تلك البقعة المنسية…
سمعته سبقت معرفته ولم يكن ذلك تصنعاً أو مجاملة بل قليل مما يستحق: ياغائبينَ، وما غابتْ محاسنهم، ونازِحينَ، وأقصَى بَينِهم أُمَمُأوجد للعلم والتعليم أساسًا لازال ذكره منحوتٌ عليه، ووضع للصحة بذورًا آتت أُكُلها بعد رحيله، وبذل الغالي والنفيس من أجل تعبيد الطرق، ووصول المصابيح التي لا تنطفئ داخل البيوت.وفي الأرواح مصابيحٌ أبهى!إنني أتوكأ قلمي الهزيل أمام تضحياته الجسيمة، وأخلاقه الكريمة وإن بذلت حالي ومالي، وشعري ونثري، وقولي ومنقولي،لم أوفه حقه، ولئن كانت الكتابة عن المحسنين فرض عين فإنها تغدو في الوالد الراحل الباقي الشيخ: عبدالله بن علي ( بن شعلة ) القرني _ رحمه الله _ ركن من أركان الوفاء لمن أفنى عمره في خدمة قومه وبني وبنات منطقته.
بماذا أبدأ وبمَ أنتهي ؟ لرجل أخذ التواضع لباسه، والكِبْرُ مداسه، وجعل الإبتسامة عنوان معرفته، والحلم ديدنه، والتسامح منهجه، يسعى فوق طاقته لحلّ الأزمات والخلافات بين الناس من عرف منهم ومن لم يعرف، يمسح على رأس اليتيم، ويصافح الصغير قبل الكبير، ويسارع في مجالات الخير ويعطي عطاء من لا يخشى الفقر …
إمامًا وخطيبًا للجُمُعِ والجماعات والعيدين والإستسقاء بالمريبي، جعل من هذه القرية شبابًا صالحين بتوفيق الله خادمين لدينهم ثم وطنهم ثم مليكهم، فكان القاضي والضابط والدكتور والمعلم والعسكري وغيرهم يدعون له بجزيل الأجر والثواب لكل حرفٍ خطّوه في كراساتهم أو آية حفظوها، أو حديثٍ فهموه، أو مهارة اكتسبوها، وكان من أوائل أولئك ابنه الشيخ الأستاذ: سالم بن عبدالله بن علي القرني، إمام وخطيب جامع المريبي، ولسان الحي والقرية.
من مواقف التواضع له أنه عندما كُنَّا في المرحلة الإبتدائية وكان حينها أحد العاملين بالمدرسة يجوب على الفصول حتى يتصيد حصة القرآن الكريم ثم يستأذن المعلم بالدخول فيجلس على الكرسي بين أبنائه الطلاب ويُتَبِّعْ مع أحدهم ويقرأ حرصًا منه وتشجيعًا حتى انتهاء الحصة ثم يستأذن للخروج ويكمل عمله.
حفظته محافظة القنفذة بل ورسمت صورته رسمًا لكثرة تردده على الدوائر الحكومية بمختلف أنواعها ساعيًا لجلب الخدمات وإزاحة الأزمات للقرية وأهلها .آمن بالإنسان والمكان وكان يردد “قوم(ن) تعاونوا ماذلوا وأنا بو سالم” فاستجاب المكان وارتقى إنسان المريبيّ الذي درس في مدرسة المرحوم وصلى في مسجده ووراء ابنه وتطعم وتعالج في مستشفاه الذي سعى فيه واستضاء بسراجٍ كانت أوراق المرحوم هي التي قربته، وقبل هذا وذاك استمد منه العزم والتحدي.
آثرنا الفلاح بالثمار ورحل!!! أرأيت أيها الزمن الشحيح كرماً مثله …رحل بروحه الطاهرة في دهشة من الزمن وحسرة في أرواح المحبين، ولكن بقي عطره يفوح في كل شبرٍ خطى فيه بخطاه الثابتة، وجعل الناس يترحمون عليه ويدعون له بجزيل الأجر وعظيم العطايا…
وصدق القائل:قد مات قومٌ وما ماتت مكارمهم وعاش قومٌ وهم في الناس أمواتُ