“أندم من الكسعي”.. يعد هذا المثل واحدًا من الأمثال الشعبية التي تضرب في الندم. والكسعي هو رجل من الجاهلية يدعى محارب بن قيس من كسعة، كانت له إبل يرعاها في وادٍ فيه شجر، وبينما هو سائر لفت نظره شجرة راقت له، وقال في نفسه: لأصنعن لنفسي قوسًا من تلك الشجرة، وظل يتعهدها ويرصدها في كل يوم حتى استوت فقطعها، وبعد ذلك جففها وصنع منها قوسًا شديدًا ثم دهنه وألحق به وترًا، وصنع خمسة سهام من برايتها.
وكانت سهامه لا تخطئ، لم يرمِ سهمًا إلا أصاب. وفي ذات يوم بينما كان يمشي، ويتحرى رؤية أي صيد ليجرب أكثر ويتأكد من مهارة ودقة تصويبه، رأى مع دنو شمس الغروب حمر وحشية، وعلم علم اليقين أن نسبة نجاح صيده ستقل بسبب حلول الظلام؛ لكنه أصر فرمى بسهمه الأول فأصاب حمارًا وحشيًا من ومن قوته امتد إلى الجبل، فلما رآه ظن أنه لم يصيب بغيته، فرمى السهم الثاني فحدث معه كما حدث في المرة الأولى رمى العير وظنَّ أنَّه لم يُصِبه أيضًا، فقال:
إِنِّي لِشُؤْمِي وَشَقَائِي وَنَكَدْ
قَدْ شَفَّ مِنِّي مَا أَرَى حَرُّ الْكَبِدْ
أَخْلَفَ مَا أَرْجُو لِأَهْلٍ وَوَلَدْ
فشدد قوسه ورَمَى السهم الثالث، فاخترق عِيرًا منها فأصابَه، ولكنه أيضًا ظنَّ أنَّه لم يُصِبه في هذه المرَّة أيضًا، فقال:
مَا بَالُ سَهْمِي تُوقِدُ الْحُبَاحِبَا؟!
قَدْ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَكُونَ صَائِبَا
إِذْ أَمْكَنَ الْعِيرَ وَأَبدَى جَانِبَا
فَصَارَ رَأيِي فِيهِ رَأَيًا كَاذِبَا
أَظَلُّ مِنهُ فِي اكتِئَابٍ دَائِبَا
وبقي معه آخر سهم، فلما رماه حدث معه مثل ما حدث في المرات السابقة، وظنَّ أنَّه لم يُصِبه في هذه المرَّة أيضًا، فقال:
أَبَعْدَ خَمْسٍ قَدْ حَفِظْتُ عَدَّهَا
أَحْمِلُ قَوْسِي وَأُرِيدُ رَدَّهَا
أَخْزَى إِلَهِي لِينَهَا وَشَدَّهَا
وَاللهِ لاَ تَسْلَمُ عِنْدِي بَعْدَهَا
وَلاَ أُرَجِّي مَا حَيِيتُ رِفْدَهَا
ومن فرط ضيقه جاء بالقوس إلى صخرةٍ فضربها حتى كسَرَها، ثم نام إلى جانبها حتى استيقظ في الصباح، فمشى إلى حيث كانت سهامه، فإذا بالحمر الخمسة مسجاة على الأرض في دمائها، فندم على كسره قوسه أشد الندم لدرجة أنه عَضَّ إبهامه فقطعها، ثم أنشأ يقول:
نَدِمْتُ نَدَامَةً لَوْ أَنَّ نَفْسِي
تُطَاوِعُنِي إِذًا لَقَطَعْتُ خَمْسِي
تَبَيَّنَ لِي سَفَاهُ الرَّأْيِ مِنِّي
لَعَمْرُ اللهِ حِينَ كَسَرْتُ قَوْسِي .
فلنأخذ العبرة من الكسعي نحن الموظفين؛ فقرار تطبيق الخصخصة وارد لا محالة، وقرار تقاعدك أو تصفية الحقوق أو نقل الخدمات إلى جهات أخرى متاح للجميع، لكن لا بد من الجدية في دراسة الموضوع من كل الزوايا، ومن ثم اتخاذ القرار المناسب الصائب؛ لأن التسرع في مثل تلك أمور لا يجدي، ولات حين مندم، و حتى لا ينطبق عليك مثل “أندم من الكسعي”.