أمّ المصلين معالي الرئيس العام لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الأستاذ الدكتور عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس وقال إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، أحمده سبحانه حمْدًا طيّبًا مُبَاركًا لاَ حَدَّ لمنتهاه.
زهتِ القلـوبُ بـنورِ حِكْمَتِهِ وَتَعَطَّـرَتْ بِذِكْـرِهِ الأَفْـوَاهُ
فَاقْصِدْ لَهُ، وَاعْرِفْهُ، وَاسْتَمْسِكْ بِهِ تَلْقَ الْهُدَى، وَكَفَى المحب هُدَاهُ
وأشهد أَنْ لا إِلَهَ إلَّا الله وحْدَه لا شريك له ، رَفَع قَدْر الدَّاعين إليه فَلَم يَزَلْ شَأْنُهم سَامِيًا مَرْفوعًا. والصلاة والسلام على النبي المصطفى زَاكي الأَرُومَةُِ أُصُولًا وفُرُوعًا، وعلى آله الطَّاهِرِين الطَّيِّبين، وصَحَابَتِهِ الكِرَام البَرَرَةِ، الذين نَشَرُوا الحَقَّ عَبِقًا مَضُوعًا، والتَّابِعِين ومَن تَبِعَهُم بِإِحْسَانٍ إلى يَوْمِ الدِّين، وسَلِّم إلَهِي تَسْلِيمًا مُبَاركًا مَا تَعَاقَبَ النَّيِّرَان أُفُولًا وطُلوعًا.
معاشر المسلمين: في زمن الفتن الصَّحْمَاء، والمحن الدَّهْمَاء، وبين أحداث التاريخ ووقائع الزمان ، تَنْبَجِسُ قَضايا تأصيلية جِدُّ مُهِمَّة، تحتاج إلى وقفات وتأملات، لتحديد المقاصد والمنطلقات، والوسائل والمآلات ؛ حتى لا تَكْوِي أكباد الغيورين، وتُدمي أفئدة الملتاعين ؛ لأنها قد تندرج تحت حروب فكرية ممنهجة؛ ترمي إلى فرض أنماط ثقافية، ومفاهيم ومصطلحات غير شرعية في المجتمعات الإسلامية، ويتسنَّم ذروة هذه القضايا ، قضية جوهرية خطيرة، وتزداد خطورتها حينما تعلو أصوات وخطابات التطرف والتشدد، والغلو والطائفية، والإقصاء والحقد والكراهية، تلكم يا رعاكم الله قضِيَّةُ: تجديد الخطاب الديني.
وقال معاليه عن ظوابط التجديد الموثق للخطاب الديني أيها المسلمون: إن شريعتنا الإسلامية الغرَّاء ملأت البسيطة عدلاً وحكمة، وتيسيرًا ورحمة، واستوعبت قضايا الاجتهاد والنوازل، فهي ليست شريعة جامدة، أو أحكامًا متحجرة تالدة، بل هي مرنة متجددة، لا تنافي الأخذ بالتجديد في وسائل وآليات العصر والإفادة من تقاناته، في مواكبة للمعطيات والمكتسبات، ومواءمة بين الثوابت والمتغيرات والأصالة والمعاصرة . وإن من أصول أهل السنة والجماعة : أن الله تبارك وتعالى وهب للعقل خاصية استحسـان الحَسَن واستقباح القبيح، وأن الخلق مفطورون على ذلك، بَيْدَ أن من الأمور ما لا يمكن للأفراد من الخلق إدراك حقيقة الوسطية فيها، خاصة فيما يتعلّق بالمستجدات والنوازل الكبرى، ومسائل الأُمَّة. فكان حتمًا ولزامًا الرجوع إلى الشارع الحكيم في ذلك، وهذه أُولى ضوابط التجديد الموثوق في الخطاب الديني الموموق: أن يعتمد على النصوص والأدلة الشرعية، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ ، يقول الإمام ابن تيمية ~: “وكل من دعا إلى شيء من الدين بلا أصل من كتاب الله وسنة رسوله r فقد دعا إلى بدعة وضلالة، والإنسان في نظره مع نفسه ومناظرته لغيره إذا اعتصم بالكتاب والسنة هداه الله إلى الصراط المستقيم، فإن الشريعة مثل سفينة نوح u من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق”.
ثاني هذه الضوابط: التأصيل العلمي؛ فهو قارِبُ النَّجاة دون الأفكار المضلِّلَة والمشارب الهدَّامة، وبه يترسَّخ الوعي الشرعي الصحيح لكثير من القضايا المهمة. ولا يتمُّ ذلك على الوجه الصحيح المأمون إلا بِمُلازمة العلماء المأمونين، والرجوع إليهم، فَهُم ورثة الأنبياء، ومصابيح الدُّجَى، وهم الجهة الموثوقة في الفتوى والنوازل والمُلِمَّات، وليس أنصاف المتعلمين، ولا أشباهم، أو شُدَاتهم، فمن اشتبه عليه علم شيء فَلْيَكِلْهُ لعالمه، ولا يخبط فيه خَبْطَ عشواء، قال جل وعلا:﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ﴾، وقال سبحانه: ﴿ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾، ثالثها: المحافظة على الأصول والثوابت لأنها لا تقبل التجديد، لذلك كان من سمات هذه الشريعة المتميزة وخصائصها الألِقة: صلاحيتها لكل زمان ومكان، والثبات والدوام والخلود ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾، والتجديد يكون في المستجدات التي لا نصَّ فيها ولا يوجد لسلفنا y فيها أو ما شابهها اجتهاد ، رابعها: أن يهدف التجديد إلى تصحيح الانحرافات العقدية والفكرية والبدع العملية والسلوكية؛ فالإسلام وحده هو الذي اهتم بالروح والجسد معا ، بخلاف الشرائع والأنظمة الأخرى التي اهتم بعضها بالجسد على حساب الروح فكان الانحلال الأخلاقي، والآخر اهتم بالروح على حساب الجسد فكان الانحراف الفكري والسلوكي.
وقال معاليه : معاشر المؤمنين: إن التجديد الصحيح للخطاب الديني يكون تجديدًا في الأداء دون المساس بالثوابت والمبادئ، وهو لا يعني قصورًا سابقا في الخطاب ولكنه تجديدٌ يتطلبه اختلاف الزمان وتطور الوسائل والأدوات، ويكون في أسلوب الخطاب لا في روحه ورسالته، وهو بهذا مطلب شرعي، وقضية حيوية للمجتمع لتجاوز هُوة التخلف، فيتواصل مع التراث ولا ينغلق عليه، بل ينفتح على العصر وآلياته وتقاناته. فيكون المقصود من التجديد : إحياء وبعث معالم الدين العلمية والعملية بحفظ النصوص الصحيحة نقية، وتمييز ما هو من الدين مما هو ملتبس به، وتنقيته من الانحرافات والبدع النظرية، والعملية والسلوكية، وبعث مناهج النظر والاستدلال لفهم النصوص على ما كان عليه السلف الصالح y، لتقريب واقع المجتمع المسلم في كل عصر إلى المجتمع النموذجي الأول من خلال: وضع الحلول الإسلامية لكل المستجدات والنوازل والملمَّات، وجعل أحكام الدين نافذة على أوجه الحياة، ووضع ضوابط الاقتباس النافع الصالح من كل حضارة على ما أبانته نصوص الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة y.
وفي الخطبة الثانية تحدث معالي الرئيس العام وقال أمة الإيمان: إن المُؤَمَّل من تجديد الخطاب الديني هو؛ الحفاظ على ثوابت الأمة وأصولها أن تطالها يد العبث والتغيير، وتخليص الشريعة مما علق بها من شوائب الجهل والمحدثات، وأدران الأباطيل والضلالات، ومحاربة التعصب المذهبي والتقليد المذموم، اللذان يبثان في الأمة الفُرْقَة والشقاق، وإمداد الأمة بثلة من المجتهدين من ذوي القدرات العالية والملكات الفقهية المتزنة القادرة على استنباط الأحكام وتخريج الفروع على الأصول، والإسهام في علاج النوازل والمستجدات بمنهج وسطي معتدل، وإبراز محاسن الشريعة ومقاصدها حتى لغير المسلمين؛ ليكون دعوة لهذا الدين، من خلال الصورة المشرقة للمفاهيم الصحيحة، التي تحقق الخير والعدل والصلاح للبشرية قاطبة. ومما يؤكد في هذه القضية المهمة؛ تجديد الخطاب للشباب لاحتوائهم، وتحصينهم، وحوارهم، وتحفيزهم، وتتويجهم، لئلا تغلب العاطفة العاصفة على العقل والاتزان، والحكمة في الأمور، وكذا خطاب المرأة في تمكينها التمكين الشرعي في خدمة دينها ووطنها ومجتمعها، والتجافي عن خطاب الإقصاء والكراهية، والتفرقة والطائفية، والحزبية والمذهبية، وإنك لواجد في الخطاب المتداول في بعض مواقع التواصل ما يَنْدَى له جبين القيم والمروءة، والأصول والثوابت، تتولى كِبَرَ ذلك أجندات مكشوفة في حرب إلكترونية وإرهاب تِقَنِيّ سَافِر ضد أمن الأمة واستقرارها الفكري وسِلْمِهَا الاجتماعي.
وأضاف معاليه فقال : وهاهي دُرَّة الأوطان وقِبْلَةُ المسلمين، ومأرزُ قضاياهم أجمعين، بلادُ الحرمين الشريفين حرسها الله، تنبري على دَأبِها وهِجّيرَاها في التجديد وفق المنهج السديد؛ من خلال الوعي العميق خاصة وقت الأزمات والملمات. فبرعاية كريمة من ولاة أمر هذه البلاد المباركة ، يُشاد بكل الإعزاز والإجلال ، بوثيقة مكة المكرمة الصادرة عن هيئة علماء الأمة الإسلامية التابعة لرابطة العالم الإسلامي وما اشتملت عليه من توصيات نافعة في تجديد الخطاب الديني وأثره الحضاري والعالمي والإنساني ، من خلال الدعوة للحوار والتواصل الحضاري، ومواجهة أفكار التطرف والكراهية، ونشر الفكر الوسطي المعتدل، تلك شذرات في فصل الخطاب في قضية تجديد الخطاب، والله المسؤول أن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه، وأن يحفظ بلاد الحرمين الشريفين شامخة عزيزة وسائر بلاد المسلمين من كل مكروه وسوء، إنه سميع قريب مجيب الدعاء.