أدى جموع المصلين وزوار بيت الله الحرام صلاة الجمعة اليوم وسط منظومة متكاملة من الخدمات التي تقدمها الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي؛حيث أم المصلين إمام وخطيب المسجد الحرام الرئيس العام لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي معالي الشيخ الدكتور عبدالرحمن بن عبد العزيز السديس.
وابتدأ معاليه خطبته بحمد الله والثناء عليه,ثم أردف قائلا: على حِين فترَةٍ من الرُّسل،هَبَّتِ النَّسَائم النَّدِيَّة،للرِّسالة الغرَّاء الإسلامِيَّة بتشريعَاتها السَّنِيَّة الرَّبانيَّة،فاعْتَنَقتْها فِطَر أمم الأرض السَّوِيَّة،دُون تأبِّ أوِ الْتِياثِ طويَّة،إلى أن خَلَفت خُلُوفٌ انْبَجَسَتْ عَنهم قضِيَّة وأيُّ قضِيَّة،طاشت لها النُّهى وطارَت،وأفلَتْ شُهُب الدُّجَا وغارت،وفي عصرنا الرَّاهن،لاقت رَواجها،ومَجَّت مِلْحَها وأُجَاجها،فألهَبَت من غيرَةِ المسلم ضرَامها،لأنها قضية تتعلق بالمحبة الخالصة ذات الظِّلالِ الوارِفَة، تلكم يا رعاكم الله قضية الأدب مع الذات الإلهية العَليَّة،والتأدب الشريف العفيف مع الجناب النبوي المحمدي المُنيف،سليلُ أكرم نَبْعَة،وقريعُ أشرف بُقْعَة،وأعلم من بلغ الأرب في الدين والعلم وحُسْنِ الأدب.
موضحاً بقوله: ولَئِنْ كَانَ هَذَا العَصْر،هُوَ العَصْر الذي بَلَغَت فيه البَشَرِيَّة ذُرَا الرُّقِيِّ الفِكْرِيِّ،والحَضَارِيِّ،والثَّقافي،والمادِّي،والتقاني،فإنَّه أيضًا،هو أشدُّ العُصور حَاجَةً وعَوَزًا إلى الرُّوَاء الرُّوحِيِّ المُزَكَّى بالفضائل والمكارم الأخلاقية التي نَرْشُفُ مِنها حَلاوَة اليقين،وبَرْدَ الاطمِئنان،لتنْتشِل البَشريَّة المُعَنَّاة مِن مَبَاوِئ الضَّلال،وأَعَاصِير الفساد والانحلال.
ذاكراً: وإن أسمى درجات الأدب مع الذَّات العليَّة،تلكم الإشراقات السَّمِيَّة من أسلوب الخطاب ومناجاة الأنبياء الكرام -عليهم الصلاة وأزكى السلام،فبها تُدْرِك أرْواحُنَا مَثُوبَة الرَّحمن،فهذا خليل الرحمن إبراهيم –عليه السلام- يُؤَصِّل الأدبَ في القلوب والحنايا،ويقيم بواهرهُ في الأفئدة والطوايا ؛ فيقول:﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾، فَنَسَبَ المرض لنفسه ونَسَبَ الشِّفَاء لربِّ العالمين؛حِفْظًا للأدب مع الله سبحانه وتعالى،ونبي الله أيوب -عليه السلام- يناجي ربه مناجاة بلجاء سَامقة،غدت كالتَّاج في مِفْرَق، فقال:﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾،فأشار بـ “مسَّني” ولم يُصرح بـ ” أصابني”،ولم يسأل ربه الشفاء مباشرة،ولم ينسب الشر إليه سبحانه وتعالى، بل نسب الشر إلى الشيطان،فأفْصَحَ عَنْ رُوحٍ زكيَّة،وهِمَّةٍ عَلِيَّة،ونَفْسٍ بالمَكْرُماتِ رَضِيّة حين قال:﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾.
موكداً:أن من تمام الأدب مع الله سبحانه؛الأدب مع نبيه الكريم،قال تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ﴾،قال قتادة:”كانوا يجهرون له بالكلام،ويرفعون أصواتهم،فوعظهم الله،ونهاهم عن ذلك،وقال الضحاك:”نهاهم الله أن ينادوه كما ينادي بعضهم بعضا وأمرهم أن يشرّفوه ويعظِّموه، ويدعوه إذا دعوه باسم النبوّة”.
فإذا كان الأدب عدم رفع الأصوات فوق صوته لأنه سبب لحبوط الأعمال فما الظن برفع الآراء ونتائج الأفكار على سُنَّتِهِ وما جاء به،وقد قال تعالى:﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾،وهذا باقٍ إلى يوم القيامة ولم يُنْسَخ،فالتقدم بين يَدَي سُنَّتِه بعد وفاته كالتقدم بين يديه في حياته ولا فرق بينهما كما قال أهل العلم.
وإنَّ من المؤسفِ حقًّا:أنّ بعضَ أهلِ الإسلامِ لم يَقْدُرُوا رسولَهُمْ -عليه الصلاة والسلام- حَقَّ قَدْرِه،حتَّى وهُمْ يَتَوجَّهونَ إليهِ بالحُبِّ والتَّعْظِيْم ذلكَ أنَّهُ حُبٌّ سلبيٌّ،لا صَدَى لَهُ في وَاقِعِ الحياة،ولا أثرَ لَهُ في السُّلُوكِ والامتثال.
مبينا:أن في هذا العصر؛استقى أقوام كثيرًا من المَزَالّ مِن مشارب أهل الزَّيغ والضلال،فَتَكاءدُوا قبول الأحاديث النبويَّة،التي يَرُدُّها –بزعمهم- الواقع المَحْسوس،أو يَمُجُّها هوى عقلِهم المَنْكوس،أو تتعارض والطبّ الحديث المدروس وتتمانع وكرامة النُّفوس؛لأنها بزعمهم المطموس تُجَمِّدُ تَحَرُّر العقل الوقاد وإشراقه،وتُصَفِّدُ الفكر المُبْدِع دون انطلاقه، فلابُدّ أن تُربَّى الأجيال والمجتمعات على تعظيم الهدي النبوي قولاً واعتقادَا،وعملاً وانقيادَا،علميًا وخُلُقيًّا واجتماعِيًّا،لأنه مِلاك الحِفاظ على الهُويّة الإسلامية،والحصن المكين دون تسلل ذوي الأفكار الإرهابية والانحلالية،شطر ديار المسلمين الأبيّة،وبذلك تعِزّ الأمة وترقى،وتبلغ مِن المَجد أسمى مرقى،والله عز وجل يقول:﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا﴾.
ذأكراً أن الأدب؛اجتماع خصال الخير في العبد،وهذه القضِيَّة قد حَسَمها الإسلام،وجلاَّهَا أيَّما تجْلِيةٍ أسَاطينُه الأفذاذ الأعلام،فأيُّ نائبة تلك التي تُصِيب الأمَّة، حِين يُفتقد الأدب بين أبنائها.