كتبَ الدكتور مصطفى محمود -رحمه الله- في روايته الرائعة "الخروج من التابوت" "الإنسان عدو لما يجهل، وهو لهذا لا يحاول أن يفهم، ويغلق كل باب يدخل منه النور بغبائه و تعصبه"، ولأول مرة في حياتي أرجو فيها أن أكون أنا المخطئ، وأن جهلي بالذي سأكتبُ عنه اليوم هو سبب عدائي له، وهو ما جعلني اختارُ هذا العنوان له.
في هذه الأيام صُعِقَ الميدان التعليمي -بكل ماتحمل كلمة صُعِقَ من معنى- بفكرة غريبة وخطيرة ومؤذيةٍ للغاية، ولعل هذه الفكرة عند القلة التي راقت لها وقررتْ اعتمادها وتطبيقها، هي فكرة نموذجية عبقرية مُنقذة للتعليم بكل عناصره، ففي الوقت الذي ينادي العقل والتجارب فيه بأن أعظم الحلول وأكثرها فائدةً وأثرًا هي الحلول التي تخرج من البساطة والتفكير السلس، جاءت هذه الفكرة جزءًا من منظومة ضخمة كثيرة التفاصيل، تُسمى المنظومة الخامسة.
وقررتْ مجموعةٌ ما أن تُخضعَ الجميع في الميدان لاختبارات تحريرية تقليدية في التخصص وأخرى في الشق التربوي. نعم أنا لاأمازحكم يا سادة، اختبارات تحريرية تقليدية.
وعلى الرغم من استياء معظم من في الميدان من هذا الأمر إلا أنه وجد طريقه نحو التنفيذ، مُبرهنا بأن هناك فجوة عميقة للغاية بين الميدان وصانع القرار في التعليم.
وفي الوقت الذي ظننا فيه أننا تجاوزنا ثقافة التقييم عبر الاختبارات للطلاب، عندما وجدنا لها أثرًا غير محمود ومجحف، فهذه الثقافة -أعني ثقافة الاختبارات التقليدية- بالإضافة إلى ما كانت تحدثه من رهبة وضغط نفسي شديد لدى الطلاب والأسر والمدارس، فهي تظلم الطالب عندما تحكم على مجهوده طوال الفصل الدراسي المُنصرم في ساعة أو أقل أو أكثر بقليل، فقد يكون الطالب مُجتهدًا مُشاركًا منتظمًا لكنه في يوم الاختبار -الذي يُكرم فيه المرء أو يهان- جاء مُتعبًا أو متأثرًا بظروف أسرية أو صحية، وأخفق في الاختبار، ويأتي الطالب الذي قضى الفصل المنصرم غير آبهٍ بشيء، ويضرب معه الحظ أو يتمكن من الغش فيحوز قصب السبق.
كل هذا وأكثر جعلنا نلجأ إلى فلسفة التقويم المُستمر التي تعالج جزءًا كبيرًا من هذه المشاكل، وإن كان هناك خلل في هذه الفلسفة، فهو قد يكون خللًا في التطبيق وليس في الفلسفة نفسها.
وأبى المخططون في الوزارة إلا أن يعودوا القهقرى، وينبشوا قبر التجارب الماضية ليخرجوا ثقافة الاختبارات منه، وهذه المرة على المعلمات والمعلمين، لا على الطلاب، وحدث ما يلي:
اختبارٌ تحريري لكل من في الميدان، وسأتحدث هنا -بعد كريم إذنكم- عن اختبارات المعلمات والمعلمين تحديدًا، ولن أتحدث عن الأثر السلبي على نفسية المعلمات والمعلمين، وعن الرسالة الغاية في البشاعة التي وصلتهم عبر هذا الإجراء، ولن أتحدث عن الرفض الشديد لهذه الخطوة جملة وتفصيلًا عند السواد الأعظم منهم، ليس خوفًا أو رهبةً أو عدم ثقةٍ في قدراتهم ولكن أن يتم قياس أداءهم بهذه الطريقة التراثية القاصرة للغاية.
وإمعانًا في الضغط على المعلمات والمعلمين، جعلوا حضوره اختياريًا بشكلٍ صوري، ولكنهم ربطوا حضور المعلمة والمعلم بدرجات تُضاف إلى المدرسة، فنقلوا الكرة من ملعبهم إلى ملعب مدير المدرسة، لتتحول المواجهة من بينهم وبين المعلمين إلى المدير ومعلميه، ولا أظنني أحتاج أن أوضح ما في هذه الفكرة غير المستحبة وغير المقبولة، من أثر سلبي مدمر على علاقة المدير بمعلميه، ففي الوقت الذي يظهر فيه الجميع بمظهر "الديموقراطي المتسامح" يصطدم مدير المدرسة الذي أصبح يظهر بمظهر "الديكتاتوري" مع معلميه لتنفيذ قرار ليس موافقًا عليه ولا مقتنعًا به في الأساس.
وأسألكم الله، هل هذه طريقة تعامل مقبولة في ميدان يُفترض فيه الوضوح والشفافية والصدق؟! وسأتجاوز -بعد إذنكم أيضًا- احتمال أن تهز هذه الخطوة صورة المعلمة والمعلم أمام الطلاب، عندما يبصرونهما قد خاضا اختبارًا لقياس جودتهما.
ولن أتحدث عن مخاوف المعلمات والمعلمين المنطقية في بعضها وغير المنطقية في بعضها الآخر، مثل ربط هذا الاختبار بالعلاوة السنوية، ومما سيأتي بعد هذا الاختبار، حتى أن بعضهم قد يكون خطر على باله فكرة غريبة للغاية، وأن هذه وسيلة لدفع المعلمين والمعلمات لمغادرة الميدان عبر التقاعد الُمبكر.
بل سأتحدث عن أن أسئلة الاختبارات -وكثير من المعلمات والمعلمين يقولون ذلك- كانت مُفتقرة للبناء الصحيح، وفيها كثير من الأخطاء التي ما لبث أن اكتشفها المعلمون منذ أول وهلة، وقد نقل بعضهم ذلك للمراقب - نعم يا سادة والله لا أمزح مراقب- وقد مُنِعَ -في بعض المدارس- أصحاب التخصص الواحد من الجلوس بجوار بعضهم، خشية الغش "وعينك في ورقتك يا أستاذ"، وقد نقل بعضهم أخطاء الأسئلة للمراقب فقال: تستطيعون الاستفسار من مشرف كل تخصص فهو الذي وضع الأسئلة.
وعلى الرغم من أن الأسئلة تقيس الجانب التربوي للمعلمات والمعلمين، مع أن منهم من ليس تربويًا وهذا لن نتوقف عنده، وتقيس الجانب المعرفي في مادة محددة قد يكون المعلم قضى سنوات طوال في تدريس غيرها، إلا أن السؤال الحقيقي: ماذا تقيس هذه الاختبارات؟ فلقد تم تحديد المنهج المُراد الاختبار فيه مُسبقًا، وتم توزيع مُذكرة تتضمن الجانب التربوي، فهي بذلك تقيس مهارة واحدة تقليدية فقط، وهي مهارة الحفظ. هذه المهارة التي عانينا كثيرًا في سبيل التخلص منها وتقليصها إلى الحد الضروري منها.
وجلس في قاعة الاختبارات المعلمات والمعلمون، وحاز قصب السبق منهم، من أتقن هذه المهارة، وحفظ المطلوب منه عن ظهر قلب، أيًا كانت خبراته وخدمته ومهارته، حتى ولو كان له أداء غير مرتفع في الميدان الواقعي.
أسألكم الله ياسادة، أليس هذا عين العبث ؟! أو لعلي أنا من لم يفهم المُراد من الفكرة فعاديتها، لهذا لا أحاول أن أفهم، وأُغلق كل باب يدخل منه النور بغبائي وتعصبي، وليس من غيري من يفعل ذلك.
وها نحن كل من في الميدان من معلماتٍ ومعلمين، ننتظر من يخرج ليشرحَ لنا هذا الأمر، وله منا كل الشكر والتقدير.