بالكاد استطاع "خالد" أن يفتح عينيه بسبب تجلط الدم الذي أخفى ملاح وجهه بالكامل وهو يسمع أصواتًا كأنها آتية من قعر بئر لم يميز منها سوى صوت يصرخ قرب أذنه اليمنى: "تشهد، قل أشهد أن لا إله إلا الله"، ثم يحوقل و يعيد أشهد أن لا اله الا الله، بدأ الصوت يختفي تدريجيًا وخلال لحظات ساد صمت رهيب وهو يقلب بصره بحثًا عن زملائه الذين قذفتهم السيارة ليمل وجهه على خده الأيسر، وفي رحلة الإمالة و الإغماضة الأخيرة، سالت منه دمعة وداع تسابق جفونه وكأنها تهرب من سجن مؤبد، دمعة محملة بالأشواق لحضن الأرملة التي تراقب كل صباح وحيدها في رحلته الجامعية للمدينة المنورة، مصحوبة بدعوات وتوسلات للحي الذي لا يموت بأنه يحفظه ويوفقه، فلم تتعود لا هي ولا هو على هذه الرحلة اليومية التي تفرقهما لساعات، وترهق تفكيرها وتوتر أعصابها حتى يعود لأحضانها في نهاية كل يوم لتختمه بشكر الله على سلامته.
أثناء ارتشافها لقهوتها الصباحية أحست بضيق وكأن شيئًا كدَّر خاطرها، لا تعلم ما هو، أخذت الجوال بلا شعور ضغطت على رقم 1 في الاتصال السريع لعلها تسمع: هلا بالجنة، لكن زادها قلقًا "إن الهاتف المطلوب..."، استعاذت بالله من الشيطان الرجيم ثم ذكرت الله ودعت لوحيدها.
رسالة من أهله في دكا تطلب منه زيادة المبلغ الذي أرسله لعلاج والدته، فالمستشفى رفض العلاج قبل تأمين المبلغ كاملًا، لم ينم تلك الليلة من هم التفكير وقرر أن يضاعف جهده وساعات العمل لعله يستطيع تأمين المبلغ، عند بزوغ الشمس أخذ قهوته المركزة لعلها تطرد الخمول والكسل، فلا وقت لذلك، ركب صهريجه متوجهًا إلى "النخيل" لتعبئته بالماء وبيعه في "الحناكية" وحلمه أن يظفر بأكثر من "رد" هذا اليوم، قاد الصهريج بلا وعي، فعقله وقلبه مع أمه، دخل في وصلة الهلاك حيث يضيق الطريق لم يهتم لإعاقته حركة السير في وقت الذروة، فلا نظام يمنع ذلك فالشاحنات خلفه وأمامه مزاحمة لسيارات الطلاب والمعلمين والموظفين وقبل منعطف الموت غلبه النعاس ثوانٍ معدودة ليكون وجهًا لوجه مع "خالد" الذي حاول تفاديه لتنقلب به سيارته وتقذفه وزملاءه ليجتمع حوله الفضولين والملقنين، يرفع سبابته، يغمض عينيه، يتوسد خده التراب، يسلم الروح لبارئها. قصة من قصص يرويها المنعطف الأخير.