قال إمام وخطيب المسجد النبوي الشيخ د. أحمد بن علي الحذيفي -في خطبة الجمعة-: التقوى ميزان الكرامة ومجمع الفضائل ومفتاح البركات ومطية السائرين إلى رب العالمين، إن هذا الشهر المحرم هو مستهل العام ومفتتحه، ومشرق ومطلعه، وإننا حين نستهل العام الهجري بشهر الله المحرم لتعود بنا الذاكرة إلى حادثة حولت بوصلة الحضارة، وأدارت إليها وجه الزمان، ألا وهي حادثة الهجرة النبوية الميمونة، خطت تلك الخطوات النبوية فخطت قصة حضارة غيرت مجرى التاريخ، بل كانت مقدمة له حين أرخ المسلمون بها وكأنما قبلها قد التحف بظلام الجاهلية أو غاب في تلافيف الزمان واختفى في مجاهله، فلا عجب أن يطرد بعدها التاريخ وتتسارع أحداثه، لقد أرخ بها منذ ريعان عمر هذه الأمة وبواكير نشأتها، فكان التأريخ بها من أسنا مفاخر هذه الأمة، وأسمى مظاهر تميزها عن سائر الأمم، لما فيه من إحياء لذكر حادثة هجرة نبيهم صلى الله عليه وسلم، واعتزاز بهوية أمتهم وأصالتها، واتصال بجذورها الممتدة في أعماق التاريخ الإنساني.
وأضاف: أما التاريخ الهجري فإ الفاروق عمر رضي الله عنه حين شاور الصحابة رضي الله عنهم في التاريخ في حادثة من الحوادث زمن خلافته الراشدة، اتفقوا على أن يكون التأريخ من عام الهجرة النبوية، فعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: “ما عدوا من مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ولا من وفاته، ما عدوا إلا من مقدمه المدينة”، وحادثة الهجرة وإن وقعت في شهر ربيع الأول إلا أنهم أرخوا بالمحرم لأن ابتداء العزم على الهجرة كان في المحرم الذي يلي حادثة بيعة العقبة الثانية التي وقعت في أثناء ذي الحجة من السنة الثالثة عشرة للبعثة النبوية، وتلك البيعة هي مقدمة الهجرة كما تذكر كتب السير ومدونات التاريخ، فكان أول هلال استهل بعد البيعة والعزم على الهجرة هو هلال المحرم، وفي قول الله جل شأنه: “من أول يوم” من قوله “لمسجد أس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه”، إشارة إلى صحة ما اتفق عليه الصحابة مع عمر رضي الله عنهم أجمعين، ذلك أن عام الهجرة هو الحين الذي عز فيه الإسلام وبسقت دوحته وارتفع مناره، وأشرقت شمسه وامتدت أطنابه وعمت أنواره.
وتابع: لقد ابتدأ التاريخ بمقدمه صلى الله عليه وسلم إلى هذه المدينة الميمونة والبقعة المباركة المصونة التي اختارها الله له من بين بقاع الدنيا مهاجرا ومستقرا ومقاما، حينما أطل عليها إطلالة الشمس من نافذة الأفق ثم امتد ضياؤها فبدد ظلام الوثنية، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: “لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء”، فتضوع بمقدمه مراحها وتعطرت بهجرته أرواحها حتى النسيم إذا سرى من ربعها يثني من الروض الغصون ويطرب، حيا فاحيا المستهام بطيبه فنفوسنا بهبوبه تتطيب، يا حبذا في ربع طيبة وقفة بين الركائب والمدامع تسكب، ثم إن هذا اليوم الأغر من هذا الشهر المحرم يوم عظيم من أيام الله، نجى الله فيه كليمه موسى عليه السلام وقومه، وأغرق فرعون ومن معه، وإن نبينا صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة من هجرته الميمونة وجدهم يصومونه، وذلك في يوم عاشوراء من السنة التي تلي قدومه إلى المدينة. أو أنهم كانوا يحسبون بحساب السنين الشمسية، أو أنهم كانوا بحساب السنين الشمسية فصادف يوم عاشوراء بحسابهم اليوم الذي قدم فيه المصطفى صلى الله عليه وسلم، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: “لَمَّا قَدِمَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ المَدِينَةَ واليَهُودُ تَصُومُ يَومَ عاشُوراءَ، فَسَأَلَهُمْ، فقالوا: هذا اليَوْمُ الذي ظَهَرَ فيه مُوسَى علَى فِرْعَوْنَ، فقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: نَحْنُ أوْلَى بمُوسَى منهمْ فَصُومُوهُ”.