أمّ المسلمين اليوم لصلاة الجمعة في المسجد الحرام معالي الشيخ الدكتور صالح بن عبدالله بن حميد إمام وخطيب المسجد الحرام، واستهل معاليه خطبته الأولى قائلاً: أوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله رحمكم الله، والزموا الاستغفار.
فمن رام راحة البال، وانشراح الصدر، وسكينة النفس، وطمأنينة القلب، والمتاع الحسن فليلزم الاستغفار؛ ففي التنزيل العزيز: ﴿وَأَنِ استَغفِروا رَبَّكُم ثُمَّ توبوا إِلَيهِ يُمَتِّعكُم مَتاعًا حَسَنًا إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤتِ كُلَّ ذي فَضلٍ فَضلَهُ﴾.
ومن أراد القوة والصحة والعافية فليلزم الاستغفار : ﴿وَيا قَومِ استَغفِروا رَبَّكُم ثُمَّ توبوا إِلَيهِ يُرسِلِ السَّماءَ عَلَيكُم مِدرارًا وَيَزِدكُم قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُم﴾.
ومن أراد الأمن من الكوارث، والسلامة من الحوادث، فليلزم الاستغفار: ﴿وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم وَأَنتَ فيهِم وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُم وَهُم يَستَغفِرونَ﴾.
وأضاف معاليهِ قائلًا: إنّ قيام الحضارات وازدهارها، وسقوطها وانهيارها، يرجع إلى ما تحمله من قيم ومبادئ، ونظرة إلى الحياة، كما يرجع بقاؤها وقوتها إلى معاييرها في ضبط سلوك الإنسان وتربيته.
ولا تحرص أمة من الأمم على شيء من مفاخرها وآدابها مثل حرصها على قيمها الحضارية التي تشكل حياتها ، وملاكَ أمرها ، وعلوَّ شأنها.
معاشر الإخوة : الأخلاق هي أساس بناء الأمم، وبرسوخها يتحقق الأمن والسلامة من الهلاك والفناء، بل لا يمكن العيش ولا التعايش –بإذن الله – بغير القيم العالية، والأخلاق السامية: ﴿وَالبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخرُجُ نَباتُهُ بِإِذنِ رَبِّهِ وَالَّذي خَبُثَ لا يَخرُجُ إِلّا نَكِدًا كَذلِكَ نُصَرِّفُ الآياتِ لِقَومٍ يَشكُرونَ﴾.
ثم بيّن معاليه أن كل صفة في القلب يظهر أثرها على الجوارح، ومتى ما كان الخلق حميداً أثمر سلوكاً رشيداً ، وصلاح أفعال الإنسان بصلاح أخلاقه ، وأي مجتمع لا يرتبط بروابط مكارم الأخلاق فإنه لا ينعم بالسلم والوئام والانسجام ، بل يظهر فيه التفكك والتصارع ، ثم الفناء والتلاشي .
أيها المسلمون : الحضارة لا تقاس بآثارها المادية، ولا بالترف المادي، بل بآثارها في حفظ الإنسان وصيانة كرامته.
الماديات، والمخترعات، والمكتشفات، لا تكفي لسلامة البشرية، ونشر الطمأنينة والسلام.
والقواعد الأخلاقية لا تنفك عن المبادئ الدينية ، ولا عن المقاصد الإيمانية ، ولا تنفصم عن التعاليم الشرعية .
يقول الشاطبي رحمه الله: “والشريعة إنما هي تَخلَّقٌ بمكارم الأخلاق ، الشريعة تنظيم أحكام ، وتهذيب أخلاق ، ثم قال : وهذا هو الذي يمنع من سوء الحال ، واختلال النظام”.
وجماع الخُلُق هو التدين ، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين ، فلا دين بغير أخلاق ، ولا أخلاق بغير دين .
والأخلاق الصحيحة ، والقيم المستقيمة لا تتغير بتغير الأشخاص ، ولا بتبدل الأحوال ، ولا بتقلب الأزمنة ، ولا تعدد الأمكنة ، فهي تكون مع العدو والصديق ، ومع القريب والبعيد ، ومع القوي والضعيف ، ومع المنتصر والمهزوم ، ومع البَرِّ والفاجر؛ وفي التنزيل العزيز يقولُ سبحانهُ وتعالى : (وَقولوا لِلنّاسِ حُسنًا) ؛ وفي الحديث الصحيح يقول ﷺ : (وخالق الناس بخلق حسن).
ومن الانهيار العظيم أن تتبع الاخلاق المصالح، فهذا زور وانحراف، وهي حينئذ سياسات مصالح لاسياسات مبادئ .
وشدد معالي الشيخ بن حميد أنّ ما تعانيه البشرية اليوم في كثير من ديارها من خوف وقلق ، وما يبرز من تغيرات في المناخ ، ومن حرائق في الغابات ، وجفاف في بعض الأنهار ، وما يتجلى من تمييز في المعايير ، والنظر المتباين للشعوب ، ومعالجة الأزمات العالمية ، وما يحصل من تقتيل ، وإجلاء عن الديار ، وتهجير عن الأوطان كله بسبب التنكر للقيم ، والجرأة على معالم الدين الحق ، وغلبة الأثرة والأنانية ، والإغراق في الشهوات ، والتفكك الأسري ، والتحرر الجنسي ، وفي التنزيل العزيز :﴿ظَهَرَ الفَسادُ فِي البَرِّ وَالبَحرِ بِما كَسَبَت أَيدِي النّاسِ لِيُذيقَهُم بَعضَ الَّذي عَمِلوا لَعَلَّهُم يَرجِعونَ﴾.
لقد برز الإلحاد ، والانحراف في الحرية الفردية ، والتحرر العقلي والفكري ، والتمرد على الأسرة وتماسكها ، حتى وصلوا – والعياذ بالله – إلى ما يسمى بالمثلية ، وهو الشذوذ ، والفاحشة التي لم يسبق إليها أحد من العالمين : ﴿أَخرِجوهُم مِن قَريَتِكُم إِنَّهُم أُناسٌ يَتَطَهَّرونَ﴾
أيها الأحبة في الله : لقد خسروا وهم يعيشون على وعود في تحقيق السلام ، وإنهاء الحروب ، ونشر العدالة والمساواة ، وبسط الأمن ، واحترام حقوق الإنسان على ظن منهم أن التقدم المادي كفيل بملء الفراغ الروحي ، ونشر القيم الصحيحة ، والأخلاق المستقيمة.
لقد غرقوا في أوحال الرغبات الجسدية، والشهوات المادية، والتحلل من الضوابط الأخلاقية،
حين تضعف القيم يخترع الانسان آلات الفساد، ووسائل الغواية، وكل ما يؤدي إلى التدمير والهلاك.
إن ما أنعم الله به من التقدم العلمي الهائل ، وما تحقق للإنسانية من إنجازات في ميادين العلم أمر لا ينكر ، ويستحق الشكرَ ، ومعرفةَ حق الله فيه ، في الصناعة ، والطب ، والتعليم ، والثقافة ، والاتصالات ، والتقنيات ، وعلوم الفضاء ، وغيرها.
ولكن المصيبة في إهمال القيم ، والأخلاق ، وعدم العناية الصحيحة ، بالنفس والروح ، والقلب ، والعمل الصالح .
فالقيم هي التي تربط الحضارة بالثقافة ، وتربط العلم بالسلوك .
فالقيم الحضارية هي الروح ، وهي النور الذي يمد البشر بالحياة الحقيقة .
أيها المسلمون : تأملوا ما جاء في رسالة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- فهي الحياة: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا استَجيبوا لِلَّهِ وَلِلرَّسولِ إِذا دَعاكُم لِما يُحييكُم﴾.
بل هي الروح ، يقول عز شأنه : ﴿وَكَذلِكَ أَوحَينا إِلَيكَ روحًا مِن أَمرِنا ما كُنتَ تَدري مَا الكِتابُ وَلَا الإيمانُ وَلكِن جَعَلناهُ نورًا نَهدي بِهِ مَن نَشاءُ مِن عِبادِنا﴾ .
وهي النور يقول جل وعلا :﴿قَد جاءَكُم مِنَ اللَّهِ نورٌ وَكِتابٌ مُبينٌ﴾﴿يَهدي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخرِجُهُم مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النّورِ بِإِذنِهِ وَيَهديهِم إِلى صِراطٍ مُستَقيمٍ﴾
وبين الدكتور صالح بن حميد أنّ مقام القيم في السيرة النبوية المصطفويه يتجلى في قول أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، وهي تصف النبي ﷺ عند نزول الوحي أول ما تنزل: فقالت: “كلا والله لا يخزيك الله أبدا ، إنك لتصل الرحم ، وتحمل الكل ، وتَكْسب المعدوم ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق”.
ثم لما نزل الوحي وتتابع تجلى لنا قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في وصف النبيّ ﷺ: (كان خلقه القرآن ).
معاشر الإخوة : إنه لا سبيل لإصلاح الناس بل إصلاح البشرية إلا بالالتزام بتعاليم الدين ، ومنهجه الأخلاقي ، وأخذ الناس بفضائله وتوجيهاته .
الدين الحق بتعاليمة وقيمه هو الذي أنشا الأمة ، وأنشأ لها حضارة لم تتحقق لغيرها ، ولم تصمد صمودها على مدى خمسة عشر قرنا في قيمها الإنسانية وهي: قيمِ العدل ، والرحمة ، والمساواة ، والتسامح ، والوسطية ، والتعايش في قيم كبرى لا تحصر.
وحضارة الإسلام هي كل ما تضمنه من عقيدة ، وأخلاق ، وتشريع ، وسلوك.
الدين لا يفصل بين الشعائر وأدائها ، وبين الأخلاق وآثارها
معاشر المسلمين : وإن شئتم مزيداً من البيان لمقام الأخلاق في ديننا فانظروا وتأملوا قيم الإسلام في أشد المواقف وأحلكها إنها حالات الحرب وحال قيام المعارك، واشتداد الوطيس ليقول قائد المسلمين مخاطبًا جيشه: (لا تخونوا ، ولا تغدروا ، ولا تمثلوا ، ولا تقتلوا طفلاً ، ولا شيخا كبيرا ، ولا امرأة ، ولا تقطعوا انخلا ، ولا تحرقوه ، ولا تقطعوا شجرة مثمرة ، ولا تذبحوا شاةً ، ولا بقرةً ، ولا بعيراً إلا لمأكلة وسوف تمرون على قوم فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم، وما فرغوا أنفسهم له ).
نعم أيها المسلمون : الحرب في الإسلام هي من أجل السلام ، وبسط الامن : ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا ادخُلوا فِي السِّلمِ كافَّةً﴾ ، ﴿وَإِن جَنَحوا لِلسَّلمِ فَاجنَح لَها وَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ﴾ .
وامتدح النبي -صلى الله عليه وسلم- حلف الفضول وقال: ( ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعيت لمثله في الإسلام لأجبت) لأنه حلف إيجابي ، حلف يكرس قيم السلم.
وفي وثيقة المدينة النبوية المنورة بيان لهذا المنهج الواضح ، وترسيخ لهذه القيم العظيمة ، فقد جعلت هذه الوثيقة كل مكونات مجتمع المدينة يداً واحدة على من يريد النيل من أهلها ( أي الدولة ) . ﴿وَالَّذينَ تَبَوَّءُوا الدّارَ وَالإيمانَ﴾؛ وبعد حفظكم الله إن هذه القيم العظيمة – لو أخذ بها العالم اليوم – كفيلة بإقامة جسور الحوار المتكافي بقصد التفاهم ، ومد جسور التسامح ، والتعايش ، والعدل ، والخير.
وفي الخطبة الثانية أوضح معالي الشيخ صالح بن حميد أنّ قيم الإسلام وحضارته قامت على الدين والتوحيد الخالص ، والجهاد لإعلاء كلمة الله ، والاعتزاز بالعقيدة ، وهي مع كل هذا الوضوح والجلاء أشد ما عرف التاريخ تساميا ، وعدالة ، ورحمة ، وإنسانية .
وحضارة الإسلام إنسانية النزعة ، عالمية الأفق : ﴿يا أَيُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقناكُم مِن ذَكَرٍ وَأُنثى وَجَعَلناكُم شُعوبًا وَقَبائِلَ لِتَعارَفوا إِنَّ أَكرَمَكُم عِندَ اللَّهِ أَتقاكُم إِنَّ اللَّهَ عَليمٌ خَبيرٌ﴾
وإنّ قيم الحضارة وأخلاق الإسلام عاشها المسلمون منذ عهد النبوة ، ثم عهد الخلافة الراشدة ، ثم عهود الدول الإسلامية المتعاقبة ، في كل تاريخ الإسلام ، بل وفي عهد الاستعمار ، والحاضر المعاصر ، فهي قيم ثابته ، وأخلاق الإسلام في المسلمين راسخة ، لا تتأثر بعوامل الزمن ، وتقلبات السياسة ، وتغيرات الاجتماع والاقتصاد وغيرها.
بخلاف ما يشاهد في كثير من الحضارات التي غالبا ما تكون مرتبطة بحال الناس والزمان من أمن ورخاء ، وفقر وغنى ، فإذا ما تغير الحال انقلبت الموازين واضطربت المعايير ، فأكل قويهم ضعيفهم ، وسطا غنيهم على فقيرهم ، واستبد ظالمهم بحقوقهم.
بل إن المسلمين في فتوحاتهم وحضارتهم لم يخربوا الديار التي دخلوها ، ولم يهدموا العامر فيها ، ولم يقتلوا أو يقاتلوا من لم يقاتلهم ، ويرفع السلاح عليهم .
أما حضارات غيرهم فاذا دخلوا الديار هدموها ، وشردوا أهلها ، وخربوا عامرها ، وجعلوا اعزة أهلها أذلة .
وما ذلكم إلا لأن قيم الإسلام وحضارته وأخلاقه متصلة بالعقيدة وبأحكام الشريعة ، وبمعاير أخلاقه.
إلا فاتقوا الله رحمكم الله ، وتأملوا كلام أهل العلم في قوله سبحانه : ﴿وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهلِكَ القُرى بِظُلمٍ وَأَهلُها مُصلِحونَ﴾
قال بعض المفسرين : أي لم يكن ليهلكوا بالكفر وحده حتى ينضم إليه الفساد ، فقد أُهلك قوم شعيب ببخس المكيال والميزان ، وأُهلك قوم لوط بالفاحشة ، قال أهل العلم : فدل هذا على أن المعاصي أقرب إلى عذاب الاستئصال في الدنيا من الشرك ، وإن كان عذاب الشرك في الآخرة أعظم .