خرج العجوز الفقير من بيته يلملم شتات ذلك الفقر بجنيهاتٍ معدودة، يتعفَّف بها عن سؤال الناس، ويحاول عبَثًا أن يستر بها ما تكشّف من سوءة ذلك الفقر المقيت، الذي فشل في أن يغيِّب ابتسامة الرضى، وملامح السعادة عن وجه العجوز البسيط؛ لأن إيمانه العميق، وسنين عمره التي عاشها، كانت تخبره دومًا أن الذي خلقه سيرزقه، ولن يتركه هملًا دونما رعايةٍ أو عناية، وما دامت عناية الخالق تفترش له الطريق؛ فلا مجال أبدًا للبؤس أو الضيق.
خطواتٌ معدودةٌ في الشارع المكتظ بالخَلْق، وإذ بالسعادة تتصيده، والفرح يتربص به، وعطاء المنعم المتفضل، الذي يرزق الطير في أوكارها، يجعله وجهًا لوجهٍ أمام رزقه المقسوم له ذلك اليوم؛ فيختاره مقدِّم برنامج إحدى المسابقات التلفزيونية من بين كل أولئك الخلق، يسأله عن اسمه، ويستأذنه في أن يطرح عليه سؤالًا. ويأتي جواب العجوز ضاحكًا في تعجُّب:
- سؤال إيه يا عمي، هوَّ انت شايفني بتاع علم؟!
- رد عليه المُقدِّم: سؤال بسيط يا حج.
- العجوز في يأسٍ وتفلُّت: هات ياعمي، اسأل.
- المُقدِّم: البتاعه دي اللي على راسك اسمها إيه؟
- العجوز: دي اسمها عِمَّه.
- المُقدِّم: مبروك ياسيدي؛ انت فزت معانا.
ويقدم له صندوقًا صغيرًا، يفتحه، ويُظهِر له الجائزة، التي أذهلت، وألجمت لسان العجوز لوهلة، وأدخلته في دوامةٍ من التعجب؛ فقد كانت الجائزة ماليَّةً، بمقدار ثلاثة آلاف جُنيْه.
لحظة صمت، وغمامةٌ من الذهول خيَّمت على الموقف، لتضرب بعدها صاعقة السؤال الذي لم يكن متوقعًا:
- حلال دي ياعمي؟!
- أيوه حلال يا حج.
وتكرَّر الاستفهام والتعجُّب المرَّة تلو الأخرى؛ تحرِّيًا واطمئنانا، ثم تحشرج الصوت، وانهمرت الدموع؛ لينكشف هنالك المستور، ويظهر ما كان مخفيًّا من سوءة الفقر وجحيمه.
- وربنا دني خارج ومفيش في جيبي غير أربعه جنيه بس.
كفكف دموعه، لكن دموع المقدِّم، ودموع كل من تابع الموقف، وشاهد المقطع المصوَْر، بدأت بالانهمار؛ أيعقل أن يعيش في زمن التسابق المحموم، والتصارع على المال، والتهافت على موارده، من يسأل أحلالٌ أم حرام!
نعم فقيرٌ يسأل؛ لأن جحيم الفقر واللقمة الحلال، خيرٌ من نعيم الغنى، وانتفاخ البطن من موائد الحرام.
فلله درُّ ذلك الفقير؛ وهو يعطي درسًا في الكسب الحلال لمن باعوا أخراهم بدنياهم، وغاصوا في حمأة موارد الحرام، متخفِّين عن أنظار الخلق، متجاهلين نظرة الخالق، يحسبون ليد عدالة الدنيا ألف حساب، ولا يحسبون لموقف الحشر والسؤال أدنى حساب.