في كثير من الأحيان تأتي الأمور عكس مانريد، أو دون المأمول، ودون سقف التوقعات الوردية، فنندب حظنا بحسرة، ونقيم الدنيا ولا نقعدها، نجلد ذواتنا بقسوة، ونلقي باللوم على كل أحد، قريب حميم أو أوغريب مقيم، ألسنةٌ حداد، أشحة على الخير، بارعة في أكل لحوم البشر، دعاء بهلاك، وتوعد بتشويه سمعة، وانتهاك أعراض، سبب ذلك؛ أن الحظ لم يحالفنا في مسابقة وظيفية ما، رغم أننا غير مؤهلين لشغلها، بل يوجد من هو أفضل وأجدر منا، أو عدم نجاحنا في خطوبة، أو زواج؛ فلنقي بسياط اللوم، ونرمي بسهام الاتهامات، لأهل المخطوبة، أو الزوجة.
وإن لم يتوفق أحدنا في نيل بعثة دراسية داخل البلاد أو خارجها، أو تأخرت رحلة طيران، أو تم تأجيلها، إلى غير ذلك من أمور الدنيا، التي تأتي عكس تياراتنا، ودون رغباتنا وأهدافنا هنا تَسْوَدُّ الدنيا في أعننا، وتتغير الأمزجة وتزداد الأمور سوءاً وتعقيداً.
لم نعلم أن مانكره قد هيأ الله لنا في كره خيراً كثراً، فالخيرة ما اختارها الله، هو العالم بحال عباده، والمتكفل بأمورهم، ولن تموت نفس حتى تستوفي رزقها، قال الله تعالى : (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون).
يذكر أن الحجاج بن يوسف الثقفي تزوج من امرأة اسمها (هند) رغماً عنها وعن أبيها ،وكانت ذات جمال أخاذ تأسر القلوب، وتسلب الأحلام، وكان الحجاج دميماً، وكانت تكرهه وتتمنى الخلاص منه، وأحس بهذا فأسرها في نفسه ولم يبدِ لها شيئاً، ثم سلط عليها خادماً له يثق فيه ليتجسس عليها، فبلغه الخادم أنها تقضي أغلب وقتها تبكي وتلعن اليوم الذي تزوجت فيه فأخذ الحجاج يراقبها في وقت خلوها بنفسها، حين يسكن الليل وتكف الأقدام ، وذات مرة وبعد مرور سنة.. جلست هند أمام المرآة تندب حظها, وتشتكي كرهها له وتسأل نفسها كيف الخلاص منه وتقول “ﻭﻣﺎﻫﻨﺪ إﻻ ﻣﻬﺮﺓ ﻋﺮﺑﻴﺔ ﺳﻼﻟﺔ أﻓﺮﺍﺱ ﺗﺤﻠﻠﻬﺎ ﺑﻐﻞ ﻓﺎﻥ أﻧﺠﺒﺖ ﻣﻬﺮﺍً ﻓﻤﻦ ﻃﻴﺐ أﺻﻠﻬﺎ ﻭإﻥ أﻧﺠﺒﺖ بغلاً ﻓﻤﻦ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺒﻐﻞ”، فسمعها الحجاج فغضب فذهب إلى خادمه وقال له : (اذهب إليها وبلغها أني طلقتها في كلمتين فقط لو زدت ثالثة قطعت لسانك، وأعطها هذه العشرين ألف دينار).
لاحظوا الإهانة يوكل تطليقاً لخادم، فذهب إليها الخادم فقال: (كنتي فبنتي)، (كنتي) يعني كنتي زوجتة، (فبنتي) يعني أصبحتي طليقته، ولكنها كانت أفصح من الخادم وأذكى فقالت: (كنا فما فرحنا … فبنا فما حَزِنَّا)، وحز ذلك في نفس هند وأحست بمدى إهانة الحجاج لها حين وكله بطلاقها ولم يطلقها هو بنفسه، وصممت على أن ترد له الصاع أصواعاً، وقالت للخادم : خذ هذه العشرين ألف دينار لك بشراً بخبر طلاقي.
وبعد طلاقها من الحجاج لم يجرؤ أحد على خطبتها وهي لم تقبل بمن هو أقل من الحجاج في مكانته، فأغرت بعض الشعراء بالمال فامتدحوها وامتدحوا جمالها ورجاحة عقلها عند عبد الملك بن مروان فأعجب بها وطلب الزواج منها، فلما خطبها وافقت وبعثت إليه برسالة تقول: (أوافق بشرط أن يسوق البغل أو الجمل من مكاني هذا إليك في بغداد الحجاج نفسه)، والحجاج كان والياً على العراق عند الخليفة عبد الملك بن مروان ولا يستطيع مخالفته، فوافق الخليفة وأمر الحجاج بقيادة بغلة هند إلى قصرها، فبينما الحجاج يسوق الراحلة إذا بهند تسقط من يدها ديناراً متعمدة ذلك، فقالت للحجاج (يا غلام لقد وقع مني درهماً فأعطنيه)، فأخذه الحجاج فقال (لها باستهزاء إنه ديناراً وليس درهماً)، فنظرت إلية وقالت: (الحمد لله الذي أبدلني بدل الدرهم ديناراً)، ففهمها الحجاج وأسرها في نفسه،
أي أنها تزوجت خيراُ منه.
فكل واحدٍ منا إن لم يحالفه الحظ مرة ، فقد يوافقه ويرافقه مرات ومرات ، فما عند الله خير وأبقى ، فسيبدلك الله الدرهم بدينار .. وليس على الله بعزيز .
مثل هند سوف يتكرر كثيراً في حياتنا .
إنه مثل هندي … أي ينسب لهند صاحبة الحجاج بن يوسف الثقفي.