يوم السبت الموافق 1417/11/17 هـ دوت فاجعة كبيرة في محافظة العرضيات وما جاورها في تهامة ليصل صداها للسراة.. الفاجعة حادث مروري لا يشبه بقية الحوادث.. نتج عنه وفاة شيخ قبيلة شمران تهامة ومعه خمسة من أعيان القبيلة في مركبة واحدة وفي لحظة واحدة.. وإن كان الموت مصيبة فإن أكبر المصائب هو فقدان أركان المجتمع الذين يقودون فيه الخير والإصلاح.
والشيخ سعد بن حوفان آل رفيع الشمراني هو محور حديث حلقتنا اليوم من زاوية “ما نسيناكم” التي أطلقتها صحيفة “منبر” الإلكترونية ونستعرض فيها جانبًا من سيرته العطرة وما تركه في الذاكرة من قيمه الفاضلة.
البداية صورة لا زالت ماثلة أمامي، فقد جمعتني بالشيخ سعد – رحمه الله – زمالة عمل في التعداد السكاني عام 1413هـ وكنا كفريق عمل نزيد عن 30 شخصًا، وكنا نجتمع كل ليلة في متوسطة ثريبان لجمع خلاصة عمل يوم كامل كعدادين ومراقبين ومشرفين، وفي نهاية اللقاء نجتمع على العشاء كل ليلة وكنت أصغر الزملاء سنًا وهم جميعًا أكبر سنًا و خبرة وتجربة، وعندما حان موعد العشاء خصصوا صحنًا يجلس عليه زميل العمل الشيخ سعد بن حوفان احترامًا وتقديرًا له، ولكنه عندما رأى ذلك غضب وقال لهم نحن زملاء وهذا لا يرضيني أبدًا، وأدباً منه جلس في تلك الليلة على الصحن الذي أعددناه له وفي الليلة الثانية فعل الزملاء مثل أمس ولكنه في هذه المرة قال: “لن أجلس إلا على الصحن الذي اختاره بنفسي” وفعل ذلك، ليكون “درسًا في التواضع والثقة في النفس واحترام وتقدير الزملاء”.
ولادته ونشأته
ولد بقرية الروحاء بلاد شمران في محافظة العرضيات، وهو الابن الأول للشيخ حوفان بن عوض الشمراني شيخ قبيلة شمران، وكان ذلك عام 1365 هـ وتوفيت والدته وعمره 10 سنوات تقريبًا، نشأ في كنف والده ينهل ويتعلم ويحاكي تصرفاته وصفاته معينًا له في قضاء أعماله اليومية، وما يتعلق بإدارة شؤون والده الخاصة، ويشاهد عن قرب أدوار والده القيادية في القبيلة وطريقته في إدارة شؤون الناس وحل مشكلاتهم.
حرص والده رغم حاجته الماسة له على تعليمه، وألحقه بالمرحلة الابتدائية في ثريبان، كأول نواة للتعليم في المنطقة وتخرج فيها عام 1384هـ، كما حرص الشيخ حوفان على أن يلتحق ابنه بالمرحلة المتوسطة رغم بعدها، وشُح المواصلات لكون المرحلة المتوسطة آنذاك توجد في مدينة القنفذة، ودرس المرحلة المتوسطة وتخرج عام 1387 هـ، إلا أن إصرار والده لم يتوقف عند هذا الحد، بل سعى لأن يكمل تعليمه، وكان وراء ذهابه إلى مدينة الرياض لكي يدرس في معهد المعلمين، وزوَّجه والده حينها، وتخرج في المعهد عام ١٣٩١هـ، وعُين في بادية نجد أو ما يعرف حاليًا بمركز سنام في محافظة القويعية التي عمل بها معلمًا.
لكن حاجة الشيخ حوفان له جعلته يسافر إلى مدينة الرياض ويتجه إلى وزارة المعارف آنذاك شارحًا لهم ظروفه وحاجته لابنه التي قدرتها الوزارة، لينتقل إلى القنفذة معلمًا في مدرسة نخال الابتدائية، وذلك في نفس العام من 1391 هـ، ليصبح إلى جوار والده معينًا له في أمور المشيخة، وبقية أمور حياته.
وفي أثناء ذلك، صدر قرار بفتح مدرسة متوسطة في شمران عام 1392 هـ، ووقع الاختيار عليه ليكون مديرًا لها ومن ثم عاد إلى قريته لكي يصبح مديرًا ومربيًا لأبناء مجتمعه، ومرشدًا لهم في هذه المرحلة، ويباشر مع والده مهامه التي كان يفوضه فيها وفي كثير من الأمور لما شاهده منه من الحرص والمعرفة والسداد.
عمل مديرًا لفترة قبل ضم المدرسة الابتدائية له أيضًا عام 1400 هـ، فكان يشرف على تعليم طلابه وزرع البذرة الصالحة في أنفسهم، وتخرج من على يديه أجيال عُرفت بالجد والمثابرة، وشغلت دورها في بناء الوطن، منهم الطبيب والمهندس والطيار ورجل الأمن، يرددون بعد وفاته أحاديث الذكريات عما كان يفعله معهم من توجيه، وحرص وتشجيع لهم حتى حصولهم على القدر الكافي من التعليم، ومكث في ذلك لما يقرب 27 عامًا دون كلل أو ملل.
توليه المشيخة
تولى المشيخة بعد وفاة والده الشيخ حوفان، وكان ذلك عام ١٤٠٧هـ، ولم يكن هذا المنصب غريبًا عليه فهو الابن الأكبر والنائب لوالده والممارس لأعمال المشيخة إلى جانب والده، مدركًا حجم المسؤولية وعظم المهام التي تنتظره، وحرص طوال وقته على توطيد علاقته بجماعته، وإنهاء خصوماتهم وتوفير الخدمات في قريته وتطويرها، واختار من جماعته من يقوم معه على ذلك، فنال ثقتهم وحبهم.
عُين شيخًا لقبيلة شمران وعمره 43 عامًا، وكان من أهم ما قام به هو نقل وتحسين سوق السبت الشعبي لموقع أكثر ملائمة، معتمدًا في ذلك على أعيان المجتمع الذي كانوا عند حسن ظنه بهم، وقد استمرت مشيخته حتى وفاته عام 1417هـ.
الأسرة والأبناء
للشيخ سعد -رحمه الله- من الأبناء أربعة، الأكبر هو حوفان الذي يعمل بوزارة الداخلية، يليه عوض الذي يعمل قائدًا لمدرسة الرازي، التي كان والده مديرًا لها قبل وفاته، يليه محمد الذي يعمل بالتموين الطبي في وزارة الصحة، وآخرهم عبدالرحمن الذي يعمل طبيبًا.
وكان لحرص والدهم وقربه منهم وتوجيهه لهم الأثر البالغ في ما حققه الأبناء من درجات علمية ووظيفية، فكان -رحمه الله- يمزج بين أسلوبه التربوي ودوره الأبوي، يستخدم الثواب والعقاب حتى في المنزل، فيحفز المحسن ويأخذ بيد المقصر، وكان ذلك ديدنه مع طلابه في المدرسة وكذلك مع أبناء قبيلته فهو يعتبر نفسه أبًا ومسؤولًا عن الجميع.
كان لا يميز أبناءه عن الآخرين، وكان حريصًا على أن يتحلى الجميع بالأخلاق الحميدة والتربية الصالحة، ويزرع التحدي والمثابرة في نفوس أبنائه وطلابه، وكان يتمتع أبناؤه بلمسة أبوية حانية في المنزل، إلا أنه لم يسمح بالتقصير خصوصًا في الصلاة فهو يغضب ويعاقب عليها.
ويروي ابنه عوض عن والده -رحمه الله-: “من المواقف التي مرت علي نومي عن الصلاة لفرضين متتالين، مما أثار غضبه الشديد، فضربني إلا أنه ما لبث أن أهداني ساعة باهظة الثمن عندما رآني في اليوم التالي في المسجد وفي الصف الأول، تحفيزًا لي وتطييبًا لخاطري للمحافظة على الصلاة”.
دوره الاجتماعي
لقد ثابر -رحمه الله- على تطوير وتحقيق الخدمات الاجتماعية لجماعته منذ كان يعمل نائبًا لوالده، ولكن تميز دوره أكثر بعد تنصيبه شيخًا لجماعته، وتمثل ذلك في إنهاء الخلافات والنزاعات الشخصية بين أفراد جماعته، مستفيدا من محبتهم له ومعرفتهم بإخلاصه وأمانته، وسعيه في مصالحهم، والحرص على تحقيق أهداف الحكومة، وتحقيق أدوارها التعليمية والأمنية والاجتماعية.
وكان رحمه الله محبًا لوطنه وقيادته متحملًا مسؤوليته الاجتماعية وحريصًا على بناء علاقات حميمة مع إخوانه مشايخ القبائل ، وكسب حبهم وثقتهم، ولا أدل على ذلك من قول أحد المشايخ: “إذا رأيتُ ختم الشيخ سعد في ورقة المطالبة فلا يحتاج مني ذلك أخذها وقراءتها” تأكيدًا على ثقتهم في وعيه وصدقه.
وفاته
توفي رحمه الله يوم السبت الموافق 1417/11/17 هـ في حادث مروري على طريق الساحل ومعه خمسة من أعيان قبيلته، وذلك بعد عودتهم من واجب العزاء عند أحد أفراد جماعته في مكة المكرمة، وبذلك أسدل ستار على شخصية عظيمة مليئة بالإنجاز والكفاح والنجاح، وكثير من القيم في العمل والتعامل أكسبته محبة الجميع -رحمه الله-.
قالوا عنه
الشيخ عبدالرحمن بن حوفان الشمراني الذي خلفه شيخًا في القبيلة يقول عنه: “لم يكن الشيخ سعد بمثابة الأخ فحسب، بل كان وخصوصًا بعد وفاة والدي -رحمه الله- الأب والمعلم والقدوة والمثال الذي يحتذى به لي وللمجتمع عامة. فلقد حرص على مواصلة تعليمي، وحرص أيضًا على مشاركتي إلى جانبه في كثير من الأعمال التي كان يفوضني فيها، فتعلمت منه وخضت تجارب كان لها أثرًا كبيرًا في حياتي المستقبلية. لقد رسم لنا طريقًا واضحة في خدمة الوطن من خلال مسؤوليتنا الاجتماعية وفي منهجية خدمة الناس والمجتمع لا نزال نسير عليها. وخلف لنا إرثًا عظيمًا من الأصدقاء والمحبين له في أرجاء المنطقة من الذين كان لهم به علاقة وطيدة. سيرته -رحمه الله- طويلة عطرة لا أستطيع حصرها”.
الشيخ سعد الرزقي رئيس جمعية البر الخيرية في العرضية الجنوبية سابقًا والذي قال عنه: كان محبًا لعمل الخير، مهتمًا بالمصلحة العامة، داعمًا ومشاركًا، وله أيادٍ بيضاء في عمل الخير، وكان -رحمه الله- حريصًا على تطور المنطقة بصفة عامة وترابطها، وقد جمعتني به الكثير من المواقف في أعمال البر والخير، أذكر منها على سبيل المثال مواقفه المشرفة عندما قام أهالي نقمة بفتح طريقهم وسفلتته قبل حوالي ٢٦ عامًا، فلقد سهل كل المعوقات التي كانت تعترض المشروع بحكمته وبوعيه المعروف عنه وبروحه المحبة للخير، وكذلك كان موقفه عند سفلتة وتوسعة الطريق من شمران لثريبان، وهي مواقف عظيمة تسجل في ميزان حسناته بمشيئة الله وتعد من الصدقة الجارية”.
يروي الأستاذ حامد عبدالرحمن الشمراني الذي يعمل مساعدًا بتعليم محايل: “تربطني بالشيخ سعد علاقة أخوة وصداقة ونسب، فهو دائمًا ينزل نفسه بمنزلة الأخ الأكبر لمن عرفه، كان دائمًا بشوش المحيا كريم الطباع لا يحب الجدل مبادر ودائم النصح لمن حوله ومساعدتهم”.
وأضاف: “وجوده حولك يشعرك بالأمان بعد الله؛ لما يملكه هذا الرجل من خبرات وتجارب طويلة في خضم الحياة. رحم الله ذلك الرجل فأمثاله يفتقدون بعد رحيلهم”.
ويقول الأستاذ صالح علي حسن الشمراني عضو مجلس المحافظة سابقًا زميل الشيخ سعد بن حوفان -رحمه الله- في الدراسة والتدريس: “كان أول لقاء لي به في عام ١٣٨٧ /١٣٨٨ هـ في القنفذة، وهو في الصف الثالث متوسط، وأنا طالب مستجد في الصف الأول متوسط، كان نعم الزميل ونعم الموجه، كان يؤثرنا على نفسه في إعداد الطعام وغسل الأواني وتنظيف البيت رغم أننا أصغر منه سنًا، إلا أنه كان متواضعًا جدًا ولا يستنكف القيام بأي عمل يخدم زملاءه، ويعرض علينا المساعدة المالية رغم شح المادة في ذلك الحين”.
ويضيف: “جمعتني به زمالة العمل في مدرسة الرازي بسبت شمران عام ١٣٩٦/ ١٣٩٧ هـ، ثم في مدرسة المطاع عام ١٤١٦/ ١٤١٧ هـ، فقد جمع بين العمل في التعليم ومشيخة القبيلة، وكان مثالًا يحتذى في الإخلاص والتفاني في عمله وخدمة مجتمعه. عرفناه كريمًا معطاءً مبتسمًا متفائلًا لا تعرف نفسه الإحباط واليأس. لينًا إذا اقتضى الموقف اللين، وحازمًا إذا اقتضى الموقف الحزم، يقول الحق ولا يخشى في الله لومة لائم. الحديث عن الشيخ سعد يطول ويطول. رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته”.
يقول عنه صالح زهير الشمراني من قرية آل مطاع: “منذ أن عرفنا الشيخ سعد -رحمه الله- وهو إلى جانب والده، كان دؤوبًا على خدمة الناس ومساعدتهم فكان يذهب بوالده ومن لا يجد وسيلة مواصلات في ذلك الوقت لشُح السيارات لإيصالهم إلى مدينة القنفذة لكي يستخرجوا ما يسمى في ذلك الوقت التابعية أو الحفيظة التي كانت تتطلب حضور الشيخ والأفراد الراغبين في استخراجها، وكان -رحمه الله- يقوم بإيصال المرضى الذين لا يجدون وسيلة مواصلات من كبار السن والنساء إلى المستشفيات البعيدة تسهيلًا عليهم ولصعوبة ذلك لمن كان لا يملك سيارة، كان حريصًا أيضًا على التبرع بالدم فلا يكاد يسمع بمحتاج وخاصة من أبناء مجتمعنا حتى ينطلق ويتبرع إيمانًا منه بالعمل الإنساني، وبعد تنصيبه شيخًا استغل حب الناس له وإقبالهم عليه أجمل استغلال، وقام بحصر جميع الخصومات والخلافات وحلها، وحرص على فتح الطرق داخل القرى وكان له الفضل في استبدال الطرق القديمة بطرق للسيارات”.
الأستاذ محمد سعد المشايخ الشمراني مشرف تربوي وعضو في المجلس البلدي يقول: “كنت تلميذًا في مدرسة الرازي، وكان مديرها آنذاك الشيخ سعد، وكان نعم المعلم والمربي والقائد، ندرك حرصه التام على تعليمنا ومتابعة مستوى تحصيلنا. كان لا ينتظر دور الأسرة في ذلك الوقت، فهو يشغل جميع الأدوار وبمثابة الأب للجميع”.
وأضاف: من المواقف التي رأيتها للشيخ سعد في المدرسة إنه وبشكل يومي يبحث عن الطلاب الذي بدون مصروف أو ضاع مصروفه ويمر على جميع الفصول ، ليؤمن لهم وجبة الإفطار.
وفي الختام نشكر كل من تعاون معنا في هذا الوفاء ونخص الأستاذ عوض بن سعد الذي ساهم بدور فاعل في هذا التقرير ونتوقف معكم داعين الله تعالى .. اللهم عامل عبدك سعد بن حوفان الشمراني بما أنت أهله رحمةً وعفوًا وغفرانًا، اللهم اجعل قبره روضة من رياض الجنة، وارفع درجته في جنات النعيم مع الصديقين والشهداء.